مقالات

الصراع بين علي ومعاوية .. صراع بين نظامين لا شخصين

د. طه حامد الدليمي

العلم والإبداع والمعرفة نتاج شيء واحد هو التفكير والتفكر ولكن بطريقة التدبر. والتدبر هو تركيز شعاع العقل على الفكرة وتقليبها والتعمق في لبابها، مأخوذ من ملازمة دبر الشيء، أي متابعته الدائمة. وما أتي الفكر كما أُتي من السطحية والتقليد وتقديس غير المقدس..!

عثمان وعلي

بعد عشرين سنة من وفاة النبي حصلت تغييرات هائلة في وضع الدولة الإسلامية، منها التغيير في تركيبة الشعب وتحوله – بعد توسع الدولة – إلى شعوب كثيرة يغلب عليها الرطانة والجهل وضعف الدين، ويشيع فيها كره الدولة الجديدة التي سلبتهم ملكهم، والرغبة في إزالتها والتآمر عليها والثأر من قادتها. فكان لا بد من تغير في التعامل مع الوضع الجديد يتناسب والتغير الذي طرأ عليه. وإلا اضطربت الدولة وتعرضت للفتن والتفكك.

طبقاً للثقافة السائدة كان عثمان بن عفان خليفة وكان معاوية بن أبي سفيان ملكاً. تأملوا الاختلاف بين (الخليفة والملك) في التعامل مع الوضع الجديد. علماً أن التفريق بين الخلافة والمُلك من البدع الشائعة التي لم يعرفها الصحابة ولا القرون المفضلة، وليس له في الإسلام: كتاباً وسنة من أساس صالح للاستناد. ولهذا موضعه من البحث.

لقد تصرف عثمان إزاء الوضع الجديد تصرف حاكم يغلّب البساطة وحسن الظن في تقدير الأمور وتفسير الأحداث، ويجنح إلى الزهد والإيمان بصورته المجردة الجميلة المطلقة عن قيد الواقع الثقيل. في أيام الفتنة حاول جمع من أهل الكوفة اغتيال عثمان منهم المجرم كميل بن زياد، الذي ترصد الخليفة وبدرت منه حركة جعلت الخليفة يرتاب منه فيضربه فيوقعه على استه، فإذا هو يحلف له على أنه لم يرد به شراً. فقال الناس: “نفتشه يا أمير المؤمنين، فقال: لا، قد رزق الله العافية، ولا أشتهي أن أطلع منه على غير ما قال”. بل قعد على قدميه وقال لكميل: دونك فاقتد مني!([1]) هذا تصرف عثمان، الخليفة الراشد!

وعندما قتل الخليفة عمر بن الخطاب، قام ابنه عبيد الله بقتل الهرمزان، فلم يشغل جيل المدينة في ذلك الأوان سوى الجانب الفقهي من القضية فاعتقلوا عبيد الله لإقامة الحد عليه، ولولا أن الخليفة الجديد عثمان بن عفان – باعتباره ولي دم القتيلين (الهرمزان وجفينة) – عفا عن القاتل وودى القتيلين من ماله الخاص إلى بيت المال لقتل عبيد الله!

فقار لقد كان الأولى بهم أن ينظروا للقضية من جانبها السياسي فيفتشوا عن جذور المؤامرة وشخوصها؛ وإلا فما الذي كان يفعل الهرمزان في المدينة طيلة سبع سنين سوى التخطيط لقتل الرجل الذي سلبهم ملكهم ومزق دولتهم وأذل إمبراطورهم. وكان عصر اليوم السابق لاغتيال الخليفة جالساً يتناجى مع الفارسي فيروز والنصراني جفينة فلما رهقهم عبد الرحمن بن عوف اضطربوا فقاموا فسقط بينهم الخنجر الغريب الذي نفذ به الشقي فجر اليوم التالي جريمته النكراء. والذي اتخذه الشيعة رمزاً لهم ينسبونه إلى علي ويسمونه “سيف ذي الفقار”، ووضعوا له شعاره المعروف (لا فتى إلا علي لا سيف إلا ذو الفقار).

وإذا كان قتل الخليفة عمر لم ينتج عنه كبير اختلال، فإن قتل الخليفة عثمان كان انقلاباً عسكرياً بكل معنى الكلمة أدى إلى انقلاب سياسي تولى فيه القتلة زمام الأمور فكانوا هم المتحكمين بشؤون الدولة. وقد عبر الخليفة الجديد علي بن أبي طالب عن هذا الوضع السياسي الغريب بوصف المتحكمين بأنهم “يملكوننا ولا نملكهم”. وفي المقابل وصف نفسه بعدم القدرة على إصدار الأوامر وتنفيذها فقال واصفاً نفسه: “لا رأي لمن لا يطاع”. لقد تغير الواقع الذي تحكمه الدولة بعد عشرين سنة من وفاة النبي ، فكان لا بد من تغيير يناسبه. لكن هذا لم يحصل فكان الثمن اختفاء ثلاثة خلفاء غيلة وقتلاً.

لم تستقر الأمة إلا بمجيء معاوية ذي النظرة التكاملية بأبعادها الفقهية، والسياسية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية على رأس القيادة.

معاوية بن أبي سفيان

لقد تصرف معاوية إزاء هذه الظواهر تصرف حاكم يقلب الأمور على وجوهها ويزنها بأبعد مما تبدو عليه، ويوازن بين مقتضيات الإيمان من حيث الأصل غير متعلق بعارض، ومن حيث الفعل مقيداً بعوارضه.

انظر إليه في الموسم الذي سبق مقتل عثمان بعام وقد عقد عثمان مجلساً للتشاور في شأن النازلة التي حلت بالأمة من قبل أهل الفتنة. فأشار معاوية عليه – دون جميع مستشاريه، وفيهم علي وطلحة والزبير وهم من هم في السبق والدين والخبرة والرأي! – قائلاً: (انطلق معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به، فإن أهل الشام على الأمر لم يزالوا). فقال عثمان: (أنا لا أبيع جوار رسول الله بشيء ولو كان فيه قطع خيط عنقي). فقال معاوية: (أبعث إليك جنداً منهم يقيم بين ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت المدينة أو إياك). فقال: (أنا أقتر على جيران رسول الله الأرزاق بجند يساكنهم؟ وأضيق على أهل دار الهجرة والنصرة)؟ فقال معاوية بعد ذلك: (والله يا أمير المؤمنين لتُغتالَنّ أو لَتُغزَيَنّ). قال: (حسبي الله ونعم الوكيل)([2]).

حتى إذا مر عام وحوصر عثمان واستشار من حوله في الأمر، أشار عليه عبد الله بن الزبير بعدة خيارات منها: اللحاق بالشام، وهو خيار معاوية الأول قبل أن تقع الواقعة، فرفض عثمان. لكنه عمل بالخيار الثاني الذي عرضه عليه معاوية قبل عام وهو الاستنجاد بأجناد أهل الشام([3])، وبقية الأمصار، فأقبلوا عليه بجيوشهم([4]). وهيهات هيهات؛ لقد فوات الأوان! وكان أمر الله قدراً مقدوراً.

بل كان هذا التدبير المتأخر سبباً في التعجيل بقتله؛ إذ خشي الغوغاء وصول جيوش الأمصار فرأوا أنه لا ينجيهم مما وقعوا فيه إلا قتل عثمان، لأنه إن قتل انشغل الناس به عنهم. وأما نهي عثمان أهل المدينة عن الدفاع عنه فهو لأجل أنهم ما كان لهم قِبَلٌ بدفع القتلة عنه لتمكنهم منهم، فتكون النتيجة واحدة: القتل بلا طائل وتذهب التضحيات هدراً. أما إذا وصلت النجدات وهو حي فسيُطْبـق على المجرمين من الخارج ومن الداخل فيكون للقتال ثمرة. فلا تعارض بين الأمرين.

وهنا يثور سؤال في غاية الأهمية: كيف تترك عاصمة الدولة بلا جيش يحميها من نائبة تنوبها أو غائلة تطال الخليفة الذي يحكم العالم القديم من مستقرها؟!

إن هذه إشارة إلى أن سياسة الدولة بقيت على عوائد للحكم تجاوزها الزمن منذ عشرين سنة. وأن الواقع الجديد يستدعي مستحقاته من التجديد، لكن لم يستجب له غير معاوية؛ فكان رجل المرحلة بحق، الذي كان بحق المجدد الأول في تاريخ الإسلام.

صراع بين نظام قديم انتهى زمانه ونظام جديد آن أوانه

لو نظرنا إلى هذا المشهد فقط لوجدنا فيه جملة أمور تؤشر إلى زمان جميل مضى لكن عوائده انسحبت إلى زمان جديد مختلف يتطلب عوائد أُخرى تلبي حاجاته وتناسب متغيراته، لم ينتدب لها سوى معاوية، منها:

1. بعد نظر معاوية في الأحداث وإدراك عواقبها واستشراف مآلاتها، وكيفية الاستعداد لها ووضع الحلول الناجعة لمواجهتها.

2. تفوق معاوية في فنون السياسة وإدارة الدولة وعلاج أزماتها على كبار الصحابة كعثمان وعلي فمن دونهما.

3. تغير الزمن بحيث ما عاد الورع والاستغراق في الزهد صالحاً للحفاظ على الدولة.

4. هناك نوع من الجمود السياسي خيّم على عاصمة الدولة، في حاجة إلى تجديد سريع. فالخليفة وأركان حكمه ما زالوا يعيشون في أجواء الزمن الجميل، بينما الزمن قد تغير وأصبحت عوائد المرحلة الماضية لا تلبي متطلباته، لكن القيادة تتصرف وكأنها لا تريد أن تعترف بما حصل من تغير! هل لكم أن تتصوروا كيف أن عاصمة الدولة لا جيش لها يحفظها ولا حرس يحمي خليفتها! وكيف أن الخليفة في خطر، ومع هذا توجه جمهور أهل المدينة إلى مكة للحج! وكان ذلك بأمر من أمير المؤمنين عثمان نفسه، واستعمل عليهم عبد الله بن عباس([5]).

5. إن استنجاد عثمان سراً بأهل الشام وبقية الأمصار لينقذوه من حصار أهل الفتنة، يدل بوضوح على أنه أدرك لحظتها صواب فكرة معاوية؛ ولولا ذلك ما عمل بها. لكن الأمور حين تؤتى في إدبارها ينقلب التدبير إلى تدمير.

6. حاجة المرحلة إلى رجل من غير الجيل السابق، وإلا استمرت الدولة في تدهورها.

7. لم يكن مثل معاوية من يمتلك خبرة الزمن السابق مع امتلاكه لأدوات التعامل مع متطلبات الزمن اللاحق. حتى إذا استلم زمام الأمور استقرت الدولة وعاودت السير على نهجها الأول، بعد اضطراب دام إحدى عشرة سنة.

8. التدهور الذي بدأ منذ النصف الثاني من خلافة عثمان وعامة خلافة علي إنما هو نتيجة تغير الزمن الذي يطالب صامتاً بمستحقاته من التكيف والتغير المناسب، وظل هذا التدهور حتى لبى معاوية هذه المستحقات.

9. حكم معاوية هو امتداد طبيعي لحكم من سبقه لكن بعوائد جديدة متطورة. بل إن حكم الصديق والفاروق في زمانه هو عين حكم معاوية في أوانه.

الصراع إذن صراع بين نظام قديم فات زمانه، ونظام جديد آن أوانه. بقي ينتظر من يلبي نداءه حتى كان معاوية بن أبي سفيان هو المنقذ المنتظر بعد أكثر من عشر سنين من الفتن والقلاقل والاضطراب.

12/9/2015

___________________________________________________________________________________________

  1. – تاريخ الرسل والملوك، 4/403، الطبري. مصدر سابق.
  2. – تاريخ الرسل والملوك، 4/345، الطبري. مصدر سابق. وأورده د. محمد طاهر البرزنجي في صحيح الطبري، 3/326 مصدر سابق. بزيادة “فخرج معاوية يحذر هذا النفر من كبار الصحابة من الوهن في أمر خليفتهم، ثم مضى إلى الشام”.
  3. – تاريخ دمشق، 39/429، ابن عساكر. مصدر سابق.
  4. – صحيح الطبري، 3/336-337، د. محمد طاهر البرزنجي.
  5. – تاريخ الرسل والملوك، 4/411، ابن جرير الطبري. مصدر سابق.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى