مقالات

حمراء الكوفة .. وقصور السيف العربي عن الاستيعاب الثقافي الفارسي

د. طه حامد الدليمي

لم تأت تسمية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بـ(الفاروق) من فراغ، ولا لأمر عاطفي، أو سبب بسيط، أو موقف عابر. يكشف البحث المتأمل أن هذا الإنسان من طراز فريد لا ينوف عليه سوى الصدّيق ! لا أريد هنا جمع الأدلة والشواهد على عبقريته الفاروقية الفذة، إنما أكتفي بما له علاقة بالموضوع المنوه عنه بالعنوان. خذ هذه النظرات البعيدة الثاقبة حول النشاط العسكري ومآلاته المستقبلية، ومعرفته الدقيقة بالشخصية الفارسية، وذلك على سبيل التمثيل لا الاستقصاء:

  • موقفه المتوجس من التوسع في الفتوحات، الذي يصل حد التعارض. على العكس من شغف القادة العسكريين به.
  • نهيه الصحابة عن التزوج بغير المسلمات.
  • قوله المأثور عنه: “يا ليت بيننا وبين فارس جبلاً من نار”. وقوله الآخر: “احذروا الفرس فإنهم غدرة مكرة”.
  • نهيه الصحابة عن استقدام العلوج إلى الحجاز.

وأكتفي بمثال واحد عن نتائج التوسع في فتوحات الجبهة الشرقية.

العرب استوعبوا الفرس عسكرياً لكنهم قصروا عن استيعابهم ثقافياً

الاستيعاب العسكري لا يكفي ما لم يترافق بعدة أنواع من الاستيعاب، يأتي على رأسها (الاستيعاب الثقافي). وإذا كان الاستيعاب العسكري عند التوسع في الفتوحات يستلزم وضع حامية عسكرية في كل منطقة تتم السيطرة عليها قبل تجاوزها إلى ما وراءها خشية انقلاب أهل المنطقة والتفافهم على الجيش من خلفه.. فإن الحاميات الثقافية وضرورة الاعتناء بها قبل أي توسع لا تقل أهمية عن الحاميات العسكرية، بل تفوقها كثيراً. يبدو أن الحاميات الثقافية التي وضعها العرب عند فتح فارس لم تكن من ناحية الكمية والنوعية بمستوى التحدي؛ فكان أن التف الفرس على العرب من هذه الناحية، وانشطر الاستيعاب فكان قسمة ضيزى بين الفريقين، إذ استوعب العرب المسلمون فارس عسكرياً، بينما فارس المجوسية هي التي استوعبت الدولة الناشئة ثقافياً!

ظهرت آثار هذا الاستيعاب المزدوج واضحة ولكن بعد حين. وظهرت نظرة الفاروق البعيدة الثاقبة وهو يحذر التوسع السريع في الفتوحات، ويحذر من فارس وغدرها ومكرها.

طريقة الفرس هي التسلل الخفي إلى ( أجهزة المناعة )

اتبع الفرس طريقتهم التقليدية العتيدة في غزو الشعوب، عبر التسلل الخفي الهادئ إلى أجهزة (المناعة) الاجتماعية ونخر جدران العدو الداخلية من خلال ثغراتها وشقوقها، قبل الانقضاض عليها علناً بالفعل العسكري. من هذه الشقوق (حسب تسمية الدكتور عبد الله النفيسي): عالمية الإسلام، طيبة العرب، حلقات العلم، التمدد العسكري والحاجة إلى المهادنة والاستعانة بالفرس. فالاستيعاب العسكري لم يكن تاماً. وكانت ثورات الشعوب لا تنقطع، غير أن الفرس امتازوا بمقاومتهم لتغيير الهوية على العكس من بقية الشعوب، كشعوب ما وراء بلاد فارس، أو شعوب المغرب المتاخمة للروم.

الحركة الشعوبية

تكلل الاستيعاب الثقافي الفارسي للعرب بظهور (الحركة الشعوبية)، التي غزت العقيدة والحديث واللغة والتاريخ وغيرها، وظهور الفرق الشيعية الكثيرة، التي تمخضت عن التشيع الإسماعيلي ثم الاثني عشري. ونجح الفرس في الخطين اللذين عملا عليهما:

1. التشييع العقائدي: فحولوا نسبة لا بأس بها من العرب إلى شيعة.

2. التشييع الثقافي (وهو أخطر): فالثقافة السنية السائدة اليوم ذات صبغة شيعية أو شعوبية لا تخفى على المتأمل.

وإذا كان التشييع العقائدي هو الهدف فإن التشييع الثقافي ممهد للأول وخادم له. ولولاه ما وقف سنة العراق – مثلاً – موقفاً ليناً من الشيعة فسمحوا لهم باجتياح مناطقهم، بينما وقفوا من الغزو الأمريكي موقفاً آخر. وشبيه به موقف سنة الشام واليمن والخليج ومصر والمغرب، وكل سنة العرب والعالم إلا ما ندر.

ونحن إذ نتكلم في تاريخ حركة جهاد خير البشر بعد الأنبياء عليهم السلام وهم الصحابة فمن بعدهم، ندرك أن العقل التقليدي يصعب عليه تحمل بعض ما نقول؛ وذلك لأنه لا يدرك الفرق الدقيق بين الدين والتاريخ. نحن لا نقوّم دين أولئك العظماء: فهماً والتزاماً ومنزلةً؛ فهم في القمة في ذلك. أما النظر في جزئيات عمل الواحد أو الجماعة منهم فهو يحتمل الخطأ والصواب، وليس من نص مقدس يمنع أحداً من الأمة من تشخيص الخطأ، ولو اجتهاداً أو ظناً، ما دام ضمن الضوابط. وقد كان الواحد من الشعب: امرأة أم رجلاً، صغيراً أم كبيراً يبدي رأيه المخالف للصديق والفاروق فمن دونهما بلا نكير من أحد.

حمراء الكوفة .. وتغلب الثقافة الفارسية على السيف العربي

سعد بن أبي وقاص من السابقين الأولين إلى الإسلام، والقادة الكبار والفاتحين العظام. وله منزلة خاصة متميزة يحتلها من نفسي بسبب تحريره العراق من براثن الفرس. هو نفسه مكّن للفرس لكن من الناحية غير العسكرية، يوم استجاب لضغط الواقع فأسكن أربعة آلاف منهم الكوفة، وأجرى عليهم الرواتب؛ فكانوا (بؤرة استقطاب) لكل قوى الفتنة في المنطقة من المجوس واليهود والنصارى والسريان وغيرهم، والانطلاق من هناك للتآمر على الدين والثقافة والدولة. وبسببهم تحولت الكوفة إلى مكمن ومثار ورمز للفتنة. وهؤلاء هم من اخترع التشيع. لا كما تشيعه الثقافة الشعوبية الكامنة في الثقافة السائدة من أن اليهود ممثلين بعبد الله بن سبأ هم الذين فعلوا ذلك.

لقد انتصر سيدنا سعد عسكرياً على الفرس، لكن شخصيته العربية بطيبتها وصدقها وعدم تمرسها بالمكر والخديعة كانت أبطأ في ملاحقة خبث الفرس ومكرهم وسبر غورهم. فتغلبت الثقافة الفارسية على السيف العربي. يروى البلاذري أنه كان مع رستم يوم القادسية أربعة آلاف يسمون جند شهانشاه فاستأمنوا عَلَى أن ينزلوا حيث أحبوا ويحالفوا من أحبوا ويفرض لهم في العطاء. فأعطوا الَّذِي سألوه، وحالفوا زهرة بْن حوية السعدي من بني تميم. وأنزلهم سَعْد بحيث اختاروا، وفرض لهم في ألف ألف. وكان لهم نقيب منهم يقال له ديلم فقيل حمراء ديلم([1]).

تجمع لدي بالبحث عن هؤلاء من عدة مصادر معلومات كثيرة ألخصها – مع إضافات فكرية وتاريخية أُخرى – فيما يلي:

  • كونت هذه الجالية مع عوائلهم التي التحقت بهم حتماً مجموعة كبيرة، لم يمض زمن طويل حتى تكاثرت وطغت على المجتع الكوفي. يذكر فلهوزن أنهم كانوا أكثر من نصف سكان الكوفة، وقد أخذ عددهم يتزايد حتى تضاءلت نسبة العرب هناك. وتغلبوا في عصر المأمون حتى كانت اللغة الفارسية تحتل الصدارة في الكوفة آنذاك.
  • امتهنوا بعض المهن التي يأنف العربي أن يمارسها ويستحي منها كتصليح الأحذية وما شابه. واشتغلوا بالزراعة أيضاً.
  • كان لهم دور خطير في مسيرة التاريخ العربي؛ إذ شكّل هؤلاء بؤرة جذب لبقية موالي فارس، ويهود الحجاز وفدك واليمن ونجران الذين أجلاهم الفاروق إلى الكوفة سنة 20هـ. وكذلك السريان الذين كانوا يسكنون الديارات في أطراف الحيرة والنجف. والعبيد الذين ازداد عددهم بتوسع الفتوحات، وكان أغلبهم من الأسرى الذين جيء بهم من بلاد المشرق. وسخروا لأعمال الحدادة وصناعة الجلود والأواني والخمور.. فصارت الكوفة بهؤلاء وأمثالهم مركز استقطاب لكل موتور ضد الدولة الجديدة، ومنطلقاً للتآمر عليها.
  • إن هؤلاء الموالي هم من قتل الحسين . وفي رأيي أنهم عملوا على استدراجه لإثارة الفتنة داخل دولة الإسلام، ثم خذلوه وقتلوه.
  • هذه الجالية الفارسية هي التي أسست التشيع، عبر الروايات والقصص والشائعات التي كانوا ينشرونها. وهي التي ظهر منها المغيرة بن سعيد البجلي، أول الأعمدة الكبار في ركيزة التشيع (ولهذا موضعه من البحث).
  • من أسباب انتصار الثقافة الفارسية على الثقافة العربية، وفي ظل الحكم العربي.. اتباع وسيلة الإعلام العتيدة: (اكذب اكذب حتى يصدقك الناس). هذه الوسيلة كان الفرس يعرفونها، وكانوا أساتذتها ومنفذيها قبل غوبلز وزير إعلام هتلر بآلاف السنين؛ لهذا عندما تم القبض على المغيرة بن سعيد وأراد أمير العراق خالد بن عبد الله القسري إعدامه قال: دسست في أخباركم أخباراً كثيرة تقرب من مئة ألف حديث. أي ماذا ستفعلون بها؟

بمرور الزمن تحول نشاط الفرس من العمل الفردي إلى العمل المؤسسي.

لقد رسخ الثقافة الشعوبية في العراق وما بعده من البلدان العربية مجامع الفرس التي خلفت أولئك عبر التاريخ، كالبرامكة، وبني بويه، والقرامطة، وعبر مؤسسة الوزارة في عهد العباسيين التي كانت فارسية خالصة. مثلاً: البويهيين (334هـ – 447هـ): بنوا ما عرف زوراً بقبر علي بن أبي طالب في النجف، واستحدثوا مآتم عاشوراء في بغداد، وابتدعوا يوماً سموه الغدير. أول من أحدثه معز الدولة أبو الحسن علي بن بويه في سنة 352هـ.

نحن سنة عقيدةً .. لكننا شيعة ثقافةً

من مظاهر غلبة الثقافة الشعوبية الفارسية على الثقافة العربية.. هذا الدفاع الحميم من قبل الشعوب العربية عن الفرس دون باقي القوميات، مع أنه لم يسئ للإسلام والعرب في تاريخهم أمة كالفرس! جرب أن تقول: فعل الانجليز كذا وكذا واشتمهم وحذر منهم. واشتم الفرنسيين والإيطاليين والأمريكان… لن تجد من ينكر عليك كما لو حذرت من الفرس ودسائسهم وما فعلوه بالأمة قبل الإسلام وبعده حتى اللحظة. يقول المعترضون: “في الفرس مسلمون”. أوليس في الانجليز والفرنسيين والأمريكان وغيرهم مسلمون! وفيهم مسالمون كذلك. نحن لا نقصد المسلمين ولا المسالمين إلا من لم يتغلب إسلامه على عنصريته. ويقولون: “هذه عصبية جاهلية”. بينما نحن نتكلم عن تاريخ قرأناه وواقع عشناه.

نستطيع القول بلا حرج أن جميع الفرق الضالة – ربما دون استثناء! – في تاريخ الإسلام كان مؤسسوها من الفرس. لكن الإعلان عنها يكون من أرض العراق لسببين: مركزية العراق آنذاك في قيادة الأمة جمعاء. وقرب العراق من فارس. وإليك بعض هذه الفرق الفارسية التأسيس والمنشأ، والتي مارست دورها في تطويع الثقافة العربية السنية للثقافية الفارسية الشعوبية، وميلها اللاشعوري الجمعي للفرس:

الجهمية، المعتزلة، الخوارج، القدرية، الجبرية، المجسمة، التناسخية، الحلولية، الثنوية، المنصورية، الخطابية، الكيسانية، الجارودية، الغرابية، السبعية، القطعية، القرامطة، الحشاشون، الواقفية، الناووسية، البزيغية، الفطحية، الواقفة، الهاشمية، إخوان الصفا، الإسماعيلية، الاثني عشرية، الشيخية، البهائية، القاديانية، العلوية، الدروز، النزارية، البهرة، العلي إلاهية، الفاطمية… وفرق أخرى يصعب حصرها.

هل اليهود استحدثوا هذه الفرق؟ أم الأمريكان أم الإنجليز أم الأتراك؟

فإن كان ما نقوله حقيقة فما ذنبنا فيما نقول؟ لسنا بدعاً من رجال الأمة الذين حذروا من الفرس وسموهم باسمهم وهم يحذرون منهم، وأولهم الفاروق عمر. وتقدم بعض ما قاله في ذلك. لكنها الثقافة السائدة توجه صاحبها دون وعي منه. ولو وعى وتفكر لكان له موقف آخر.

من آثار هذه الثقافة الشعوبية الغالبة على الجمهور السني أنهم يعادون عملاء أمريكا وإسرائيل كعباس وعريقات، بينما يعتذرون لعملاء إيران والشيعة كمشعل وشلَّح، مع أن إيران والشيعة أشر وأخطر!

6/3/2016

___________________________________________________________________________________________

  1. – فتوح البلدان، ص275، أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البَلاذُري (ت 279هـ)، دار ومكتبة الهلال- بيروت، 1988م.
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى