بحوث ودراسات

المعالم الأساسية للتجديد الذي أحدثه معاوية بن أبي سفيان

د. طه حامد الدليمي

العلم والإبداع والمعرفة نتاج شيء واحد هو التفكر ولكن بطريقة التدبر. والتدبر هو تركيز شعاع العقل على الفكرة وتقليبها والتعمق في لبابها، مأخوذ من ملازمة دبر الشيء، أي متابعته الدائمة.

وما أتي الفكر كما أُتي من السطحية والتقليد وتقديس غير المقدس..!

بعد ست سنين من حكم سيدنا عثمان بدأ الاضطراب يدب في جسد الدولة، واستمر هذا الاضطراب واشتد ست سنين انتهت بقتله. وجاء من بعده سيدنا علي فحكم خمس سنين ازداد فيها الاضطراب وتصاعد حتى ختم بقتله. إحدى عشرة سنة بخليفتين والدولة كسفينة تتلاعب بها الأمواج. ثم جاء سيدنا معاوية فأنهى تلك المرحلة المضطربة وحقق ما كان يتمناه الخليفتان الراشدان من قبله فلم ينالاه، وحكم الدولة عشرين سنة نعمت فيها بالأمن والاستقرار والنمو والعدل والرحمة ونشر الرسالة في الخافقين.

 

التحديات الحادثة والاستجابة الغائبة

لقد تغير الواقع الذي تحكمه الدولة بعد عشرين سنة من وفاة النبي :

1. كانت الدولة صغيرة المساحة فتمددت وتوسعت أضعافاً مضاعفة.

2. بعد أن كانت الدولة يغلب عليها الجيل الذي تربى على يد النبي فهو عارف بالدين ملتزم به إلى أبعد الحدود، دخلت فيها شعوب كثيرة متعددة الأعراق والثقافات، منخفضة الفهم والتدين، ضعيفة الولاء. كثر فيها الحاقدون ذوو الثارات المتربصون سوانح الفرص كي يعيدوا الأمور إلى ما كانت عليه.

3. حصلت فجوة كبيرة بين الجيلين: القديم والجديد من حيث التدين والثقافة والعقلية والنفسية، لم يتمكن الجيل الأول من ردمها بالتكيف الطبيعي مع متغيرات الجيل الثاني.

مجمل القول: إن الوضع الجديد بات في حاجة ماسة إلى سياسة جديدة تستجيب لهذه المتغيرات. فهو في حاجة إلى..

  • جهاز استخباري يحمي القيادة من المندسين.
  • وجود كتيبة حماية للحفاظ على أمن العاصمة، وإحاطة الخليفة بحرس خاص.
  • سن قوانين تحد من تدفق العلوج وحديثي العهد بالإسلام إلى المدينة وما جاورها.
  • نقل عاصمة الدولة إلى مكان أنسب من المدينة يأخذ بالحسبان الجغرافيا الجديدة.
  • استحداث آلية لولاية العهد قبل أن يموت الخليفة فجأة لأي سبب فيؤدي ذلك إلى الخلاف والشقاق وتفكك الدولة.

لكن هذا لم يحصل فكان الثمن اختفاء ثلاثة خلفاء غيلة وقتلاً.

وإذا كان قتل الخليفة الأول (عمر) لم ينتج عنه كبير اختلال، فإن قتل الخليفة الثاني (عثمان) كان انقلاباً عسكرياً بكل معنى الكلمة أدى إلى انقلاب سياسي تولى فيه القتلة زمام الأمور فكانوا هم المتحكمين بشؤون الدولة. وقد عبر الخليفة الجديد عن هذا الوضع السياسي الغريب بوصف المتحكمين فيه بأنهم “يملكوننا ولا نملكهم”. وفي المقابل وصف نفسه بعدم القدرة على إصدار الأوامر وتنفيذها فقال واصفاً نفسه: “لا رأي لمن لا يطاع”.

لا بد إذن من تغيير يتناسب والواقع الجديد. تغيير ينتقل بالخلافة من البساطة وأخذ الأمور على ظاهرها إلى نمط يجنح بها إلى التطور لترتقي في مدارج المُلك: أمنياً وعسكرياً وسياسياً واقتصادياً وعمرانياً. فيكون المُلك هو الحكم الرشيد الذي يتطلبه الواقع الجديد. وهو التعبير الأمثل عن الحكم الإسلامي في طوره المناسب للمتغيرات الحادثة. وإلا تطور الاختلال من انقلاب سياسي إلى زوال الدولة الإسلامية نفسها!

 

فكانت الشام وكان معاوية

كان الواقع الجديد في حاجة ماسة إلى أن يستلم الحكم رجل من الجيل الثاني، ذي قابلية أكبر على مواكبة المتغيرات واستيعابها بمرونة أوسع. من أسرة مارست الحكم، على شعب أو مجتمع ذي طبيعة مقاربة للمجتمع الجديد في عقليته ومفاهيمه ورغباته وشعوبه المختلفة. وأن ينطلق بالحكم من بلاد مؤهلة لأن تكون مركزاً وعاصمة لهذا المجتمع الجديد في موقعها وطبيعة أهلها. فكانت الشام تلك العاصمة الصالحة المؤهلة.

كان معاوية ذلك الرجل. وكانت الظروف مواتية له لأكثر من سبب: وجوده بينهم عشرين سنة أميراً. وكونه ولياً لدم الخليفة المسفوح هدراً. وكونه قائداً محنكاً قديراً مبدعاً نابغة، سليل أسرة عرفت بالمقدرة السياسية وممارسة الحكم من ناحية، وكونها أقوى أسرة في قريش فكانت “العصبية” – أي نواة قوة الدولة الصلبة – فيها من ناحية ثانية.

وزيادة في بيان كيفية تجاوز الزمن لآليات وأدوات السياسة السابقة، وحاجة الدولة إلى آليات وأدوات سياسية جديدة مناسبة، عندما لم تستجب لها الدولة اضطربت حتى تشققت وانقسمت وتدهورت، وحين أخذت بها توحدت واستقرت وتطورت.. إليكم هذا التفصيل:

 

ما هو التجديد ؟

التجديد لغةً هو إعادة الشيء إلى ما كان عليه قبل التغيير.

وفي الاصطلاح هو: “الرجوع بالدين إلى ما كان عليه أول عهده قبل ظهور الفرق، وإحياء ما اندرس منه، ونشره بين الناس. والاجتهاد في نهوض الأمة، واستعادة وترسيخ دورها القيادي وعطائها الحضاري وتطويرِه طبقاً للدين الثابت في الواقع المتغير”([1]).

فالتجديد حركة شمولية تعم الدين والدنيا. ويقوم على إحياء ما اندرس أو اختل من الأسس التي ينبني عليها هذا وهذا. أما الاختلال في الدين فيكون في شيئين أحدهما أو كليهما: أصول المفهوم، أو أصول الفهم. والمقصود بأصول المفهوم أصوله المعلومة كالإيمان والتوحيد والصلاة. والمقصود بأصول الفهم قواعد وأطر التعامل مع الدليل للوصول إلى المدلول أو المفهوم. وأما الاختلال في الدنيا فيكون باختلال الأسس التي تقوم عليها مصالح الناس في رزقهم وأمنهم. وأهمها الاقتصاد والسياسة والأمن الداخلي والخارجي والقضاء والصحة والتعليم والعمران.

 

شدة الحاجة إلى التجديد السياسي وضعف الحاجة إلى التجديد الديني

لم تمر فترة كافية إلى عهد معاوية ليحصل خلل في أصول المفاهيم الدينية. إلا ما كان من:

1. اللوثة الكسروية في العراق التي تحصر الحكم في (بيت الدين)، والتي لما تظهر بعدُ واضحة آنذاك، ثم بدأت تفصح عن نفسها شيئاً فشيئاً، وكان أول تباشيرها استدعاء الحسين إلى العراق ليستلم الحكم من هناك. ثم تطور الأمر بعد ذلك أكثر فرفع الهاشميون بفرعيهم العباسي والعلوي شعار (الرضا من أهل البيت). ولم يجد هذا الشعار بيئة ينبت ويترعرع فيها أفضل من خراسان لأنها موطن الفرس المجوس. كما لم تجد بيئة في أرض العرب تثمر فيها أفضل من كوفة العراق لتأثر العقل العراقي بتلك اللوثة منذ زمن بعيد، ولأن الكوفة صارت بؤرة لتجمع للفرس، وغيرهم من بقايا العناصر الجاهلية وأصحاب الديانات الوثنية كاليهود والنصارى والصابئة. وأرى أن العهد بالخلافة إلى يزيد كان ضربة استباقية غير مقصودة لهذا المفهوم السياسي الديني الجاهلي.

2. حصول شيء من اختلال أصول الفهم في البيئة الحجازية نتيجة التمسك الشديد بالدين؛ فهي الحاضنة الأولى والمربية الرؤوم له، ونتيجة الخوف من أن يصاب بأي انحراف مهما كان صغيراً. أدت هذه الحساسية إلى شيء من الجمود على ظاهر النص تعدى مجاله الديني البحت (الإيمان والعبادة) إلى االسياسة. وكان العهد بالخلافة إلى يزيد ضربة أيضاً غير مقصودة أدت إلى اهتزاز هذا الفهم ويقظته من جموده.

مجمل القول: ما زالت الحياة – في جانبها الديني – جيدة. فلم تكن في حاجة ماسة إلى مجدد في مجال الدين بمعناه البحت (الإيمان والعبادة)، سوى ما ذكرناه من بداية بروز لوثة حصر الحكم السياسي في (البيت الديني)، وظاهرة الجمود في التعامل مع النص.

لكن الخطورة جاءت من الخلل الكبير الذي أصاب أصول الحياة في جانبها الدنيوي، وأهمه السياسة والأمن والاقتصاد. فكانت الدولة في حاجة ماسة إلى تجديد في هذا المجال.

وإذا علمت أن التجديد ليس من شرطه الإتيان بجديد، ستدرك لماذا لن أركز في كلامي عند تناول تفاصيل المعالم الأساسية لاحقاً على جميع المنجزات الجديدة لمعاوية. وأركز على ما كان تجديداً حقيقياً احتاجه عصره في السياسة والأمن والاقتصاد. تلخصت في الاستجابة المرنة المناسبة لمتغيرات الواقع. فسد الثغرات الخطيرة التي أحدثت في البناء، وعاد به إلى سابق عهده من حيث القوة والمتانة، وزاد عليه. وهذا هو المعنى الحقيقي للتجديد.

ما أكتبه هنا خطوط عامة في حاجة إلى بحث، وبحث مقارن. ليس هذا موضعه. لن أتبع فيها التسلسل التاريخي، إنما أجتهد في ذكرها حسب أهميتها..

 

أولاً : تجديد معاوية في مجال السياسة

بعد مرور ثلاثة عقود على وفاة النبي أصيبت سياسة الدولة بأنواع من الخلل يأتي على رأسها أربعة أمور:

1. لين على طول الخط في غير وقته (عثمان)، أعقبته شدة على طول الخط في غير وقتها (علي).

2. أخذ الناس على ظواهرهم مع تغير الناس عن حقائقهم.

3. عدم مناسبة العاصمة للدولة الجديدة.

4. ترك تعيين الخليفة القادم حتى وفاة الخليفة القائم أو قبيل ذلك بقليل.

فكان لا بد من تجديد تسد به هذه الثغرات، وترميم بناء السياسة لإعادته إلى سابق عهده، والانطلاق به صعداً في مدارج أوجه.

وكان معاوية صاحب هذا التجديد. وصاحب السياسة الجديدة الصالحة لانتشال الدولة مما آلت إليه من تمزق وتناحر وتوقف عن النماء والعطاء، ثم وضعها على السكة لتمارس دورها مرة أُخرى في مدارج الارتقاء وقيادة العالم.

 

1. التوسط بين اللين والشدة

كان أحد أسباب تدهور الدولة الذي بدأت علاماته بالظهور في النصف الثاني من خلافة عثمان وطيلة عهد علي هو لين في غير وقته تميز به عثمان على طول الخط، وشدة في غير وقتها تميز به علي على طول الخط. ولو استمرت الحال على ما هي عليه من اللين الخالص أو الشدة الخالصة لانزلقت الدولة إلى ما لا يعلم مداه من التدهور إلا الله.

لم يكن معاوية ليناً على طول الخط كعثمان، ولا شديداً على طول الخط كعلي. لقد انتهج الحاكم الجديد منهجاً وسطاً بين اللين والشدة، وسياسة جديدة عبّر عنها بقوله: “لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني. ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. قيل: وكيف ذاك؟ قال: كنت إذا مدّوها خلّيتها وإذا خلّوها مددتها”[2]. وقد أطلق فيما بعد على هذه السياسة مصطلح (شعرة معاوية) أخذاً من ذلك الجواب.

ساعد على ترسيخ وتنمية هذه السياسة صفات تميز بها معاوية. يأتي في مقدمتها الذكاء والدهاء، فقد كان رابع أربعة من العرب يضرب بهم المثل في الدهاء. وهو رزانة العقل، وقوة البصيرة، وحدة النظر في الأمور، وسعة الحيلة، وحسن التخلص في العظائم، والنظر في المآلات، والقدرة على حل المشكلات.

كما تميز معاوية بالحلم وسعة الصدر، جعلت ابن عباس يقول فيه: “ما رأيت رجلاً كان أخلق للملك من معاوية. كان الناس يرِدون منه على أرجاء واد رحب. لم يكن بالضيق الحصر العصعص المتغضب”([3]). وهذه الخصلة جعلته – إضافة إلى صفات أُخرى – يتربع على إحدى صفات القيادة العظمى، ألا وهي (الاستيعاب)، فكان معاوية قائداً من الطراز الأول. حتى إن ابن عمر جعله في القيادة في مرتبة لا تعلوها سوى مرتبة رسول الله! فقال: ما رأيت أحداً بعد رسول الله أسود من معاوية. قال الراوي: ولا عمر؟ قال: كان عمر خيراً منه، وكان معاوية أسود منه[4].

 

2. تغيير السياسة السابقة في أخذ الناس على ظواهرهم دون تثبت

لقد تربى جيل عثمان وعلي على معانٍ سامية تطبعوا عليها تصلح لمجتمع من طراز خاص يغلب عليه الصدق والصراحة والتدين. منها أخذ الناس على ظواهرهم في زمن تغير فيه الناس عن حقائقهم.

وقد طغى هذا الشعور الجميل حتى تجاوز الضوابط الشرعية والمنطقية في كثير من الأحيان.

فسيدنا عمر بن الخطاب ، لما قال له فيروز: لأصنعن لك رحى تتحدث بها الناس في الآفاق، اكتفى بأن قال: “توعدني العلج”([5]). وترك “العلج” يسرح ويمرح دون متابعة أو تحقيق حتى نفذ وعيده!

وعثمان بن عفان ركب إليه كميل بن زياد مزمعاً قتله، وكان جالساً في السوق يرصده حتى أتى عليه عثمان فثاوره فوجأ عثمان وجهه، فوقع على استه، وقال: أوجعتني يا امير المؤمنين! قال: أولست بفاتك! قال: لا والله الذي لا إله إلا هو، فحلف وقد اجتمع عليه الناس، فقالوا: نفتشه يا أمير المؤمنين، فقال: لا، قد رزق الله العافية، ولا أشتهي أن أطلع منه على غير ما قال. وقال: إن كان كما قلت يا كميل فاقتد منى- وجثا- فوالله ما حسبتك إلا تريدني. وقال: إن كنت صادقاً فأجزل الله، وإن كنت كاذباً فأذل الله وقعد له على قدميه وقال: دونك! قال: قد تركت فبقيا حتى أكثر الناس في نجائهما[6].

إن هذه التصرفات الرحيمة ما عادت تنفع مع الناس، وما عاد الناس ينزجرون بها. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات:12). قال: (كثيراً من الظن) ولم يقل (كل الظن). وهذا في أوضاع هادئة راقية. أما إذا تغيرت الأوضاع وانقلبت الأحوال فيكون كلّ شيء بحسبه. واحتاج المعنيّ إلى الثبت والتحسس والتجسس وبث العيون ومراقبة مواطن الفتن.

أدت هذه السياسة إلى استشراء أعداء الداخل من الشيعة والخوارج في العهد السابق حتى اغتالوا عمر، و(انقلبوا) على عثمان، وسيطروا على دولة علي. ولم يبق إلا الخطوة الرابعة ليقضوا على الدولة ويعيدوها فارسية مجوسية.

فجاء معاوية وقطع عليهم الطريق بسياسة جديدة تجمع بين تطمين الصالحين ومراقبة المندسين والفاسدين.

 

3. تغيير العاصمة

لقد تغير وضع المدينة المنورة بعد توسع الدولة بالفتوحات، ودخول أقوام كثيرة ضمن نطاق الدولة فما عادت تصلح لقيادة هذه الدولة الشاسعة الواسعة.

  • فمن ناحية العنصر البشري: انتقل منها إلى غيرها أغلب الصحابة. وكانت ثقافة عامة أهل الحجاز ثقافة فقهية في حاجة إلى مرونة لاحتواء الشعوب الجديدة. وكان يغلب على علمائها فقه الدين البحت أكثر من فقه السياسة والعسكرية.
  • ومن ناحية الجغرافيا: أمست المدينة بعيدة عن أطراف الدولة الجديدة.
  • ومن ناحية الاقتصاد: صارت مستهلكة لا منتجة للمال.
  • ومن ناحية القوة: فهي أضعف المدن والأقاليم رغم كونها العاصمة. ليس فيها كتيبة واحدة لحمايتها؛ ما أطمع أراذل الناس فيها وفي خليفتها.

يبدو أن معاوية أدرك منذ وقت مبكر أن المدينة ما عادت صالحة لأن تبقى عاصمة للدولة. فقبل عام من مقتل عثمان اقترح عليه أن يتخذ من دمشق بدل المدينة عاصمة لدولته، فلما أبى اقترح عليه أن يرفده بكتيبة عسكرية من أهل الشام لحمايته. ورفض سيدنا عثمان كلا المقترحين!

كشف ذلك عن نظر سياسي ثاقب لمعاوية أدرك به أن المدينة المنورة ما عادت تصلح كعاصمة، وأن أهلها باتوا من الضعف عن ممارسة القيادة إلى درجة أنهم ما عادوا قادرين على حماية أنفسهم. وثبت صدق هذه الرؤية الاستشرافية بعد عام واحد فقط من ذلك، فقتل الإمام عثمان بن عفان على يد مجموعة من الرعاع قدموا من مصر والعراق، دون أن يغني عنه من حوله شيئاً.

كانت الحاجة ماسة إلى عاصمة وسط بين الشرق والغرب أقرب نسبياً إلى أطراف الدولة، آخذين بنظر الاعتبار احتواءها على عنصر بشري صالح لقيادة الأخلاط الجديدة التي تدفقت فغيرت من الشخصية الجمعية للشعوب السابقة التي كانت تتكون منها الدولة. فكانت دمشق أنسب العواصم. أما الكوفة التي اتخذها علي عاصمة له بدل المدينة فقد كان العنصر البشري المتوفر فيها غير صالح للقيادو ولا للانقياد، على العكس من العنصر البشري في دمشق. إنها تمثل خطوة وسطى غير مكتملة بين القديم والجديد. وكأن سيدنا علي كان قدره أن يمثل عهده فترة انتقالية بين العهدين.

 

4. حسم أمر تعيين الخليفة القادم في حياة الخليفة القائم

أدى ترك تعيين الخليفة القادم حتى وفاة الخليفة القائم أو قبيلها بقليل إلى وقوع مفاجآت أشغلت الخليفة المتوفى عن حسم ولاية العهد فقاد ذلك إلى حروب داخلية، وانشغال الأمة بجراحها عن أداء رسالتها العالمية. وذلك مرتين من أربع مرات سبقت عهد معاوية: فالتماهل في تعيين الخليفة الجديد حتى تدنو وفاة الخليفة السابق أدى إلى أن يقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان دون وقبل أن يتمكن من تعيين خلف له. وقاد ذلك إلى حروب وفتن استمرت خمس سنين! إن السياق السابق القائم على عدم تحديد إجراء معين لاختيار الخليفة الجديد (بيعة الصديق، العهد لعمر، العهد إلى ستة اختاروا عثمان) يصلح في وضع نموذجي مستقر، وهو أمر خاضع لظرفه وليس أمراً تعبدياً واجباً اتباعه بحذافيره. أما في الوضع المضطرب فلا يزيده ذلك إلا اضطراباً على اضطراب، فكان ما كان بعد مقتل عثمان وما تلاه من حروب وانقسام. ثم تولى الحسن الإمارة بطريقة غامضة اختلف الرواة وتصرفوا كثيراً في تصويرها. وكادت تقع حرب أُخرى لولا أن تدارك الله تعالى الأمر بسيدنا الحسن الذي أدرك بذكائه ووعيه أن المرحلة لا يصلح لها غير معاوية، وفعل ما يمليه عليه دينه وخلقه فتنازل له عن الرئاسة والتأم شمل الأمة مرة أُخرى.

كانت الحاجة ماسة إذن إلى وضع سياق لولاية العهد والانتقال الآمن للسلطة. ولم يكن شيء أصلح من تعيين الخليفة القادم من داخل الأسرة.

وهذه سبق إليها سيدنا علي ، لكنه لم يكن واضحاً فيها، وتأخرت حتى حانت ساعة وفاته، فكان من الممكن أن تخترمه المنية قبل أن يفعلها. فقد فعلها بصورة تقليدية ارتجالية وقى الله شرها. ولا ندري ماذا سيحصل لو أن علياً قتل ساعة أصيب، ولم تمهله الضربة أياماً حتى يرتب الوضع السياسي الداخلي على الوجه المطلوب.

مما امتاز به معاوية بعد نظره وتفكيره في مآلات الأمور، ولم يكن يقصر نظره على أمور الساعة فقط. لقد رأى أن تعيين الخليفة القادم لا ينبغي أن يترك للصدف والمفاجآت؛ فقد كلف هذا التهاون والتماهل الأمة كثيراً من الأثمان، وإنما يجب على الخليفة القائم أن يحسم اختيار من يليه في الحكم في حياته وهو صحيح سليم في عقله وجسمه، يملك القدرة على تنفيذه على أحسن وجه.

وقد رأى بعد طول تجربة ومعاناة وكثرة تفكر وأناة أن تولية العهد وتعيين الخليفة من داخل الأسرة أسلم طريقة لانتقال السلطة، وأن ابنه يزيد هو أنسب من يصلح لها. ففعل وبذل جهوداً جبارة حتى تم له ما أراد. وكانت هذه من أعظم الإنجازات السياسية لسيدنا معاوية.

ولم يكن هذا الاختيار إلا عن طول تفكير واستشارة ومداولة للرأي، وعن نظر عميق ومعرفة بالمجتمع والبيئات المتعددة والتغييرات الحادثة، وأي الأشخاص والأماكن هو الأصلح في ذلك الظرف للحكم.

يقول د. يوسف العش: “فهو – أي معاوية – يعتقد أن الشام يجب أن يبقى مركز الخلافة؛ لأن أهل الشام أطوع للخليفة من أهل الأمصار الأخرى، ثم لأن السياسة العملية التي يمثلها الشام يجب أن تبقى سياسة الحكم والخلافة؛ لأنها السياسة التي ظهر له صلاحها في وضع العرب والمسلمين آنذاك. فمن هو الذي يصلح لهذه السياسة؟”[7].

وبعد أن استعرض الأسماء المحتملة: (الحسين وابن الزبير وابن عمر وابن عباس وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الرحمن بن خالد) وبيّن أنهم يمثلون نزعة حجازية في السياسة تخالف نزعة معاوية العملية، وكلهم لا شيعة له في الشام كما ليزيد، سوى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد لكن نزعته حجازية. أما ابن عباس فيشبه معاوية في النزعة السياسية لكنه لا شيعة له هناك. بعد ذلك قال: ” فمن يبقى لديه إذن؟ إن من يبقى هم أهل بيته الذين نشأوا في الشام وسياستها وإمارتها، وعلى رأسهم يزيد ابنه؛ فقد ولد في الحين الذي كان فيه معاوية والياً عليها لعثمان. ولد إذن في الإمارة، ونشأ في الشام، ووالدته من أهل الشام عريقة في شاميتها، إذ هي من بني كلب، وقد سكنوا الشام منذ أمد بعيد. ثم إن معاوية – على ما تخيل – مرّن ابنه على الحكم والجهاد، إذ أرسله في بعثة الفتوح إلى القسطنطينية”[8].

 

ثانياً : التجديد في مجال السياسة المالية

حكم سيدنا معاوية دولة واسعة الأرجاء، وفيرة الموارد، متعددة المطالب والمشاكل، كثيرة وجوه الإنفاق. هذا مع تجربة اقتصادية سابقة وصلت حد الاحتقان، وأدت إلى اضطرابات هددت كيان الدولة وأدت إلى مقتل خليفة.

اقتضت هذه المتغيرات والتجارب استحداث سياسة مالية جديدة متطورة تلبي الحاجة الراهنة وتأخذ بالاعتبار المآلات والمشاكل الناتجة. فاستحدث إصلاحات كثيرة في هذا المجال المهم والخطير من جوانب الحياة والأنشطة المجتمعية.

وحتى ندرك ما يجري علينا أن نعرف ما جرى. فنقف وقفة قصيرة أمام التجربة السابقة.

 

السياسة المالية السابقة

المال في دولة الإسلام قسمان:

أ. قسم: هو حق خاص للشعب فصلته النصوص، لا حق للحكومة في التدخل فيه بأي صورة من الصور، مثل الميراث والزكوات والصدقات والغنيمة بعد استخراج خمسها.

ب. قسم: هو حق خاص بخزينة الدولة، مثل خمس الغنيمة والخراج. وهذا يتنازعه حقان، وينظر إليه من زاويتين: فمن زاوية أنه في نهاية الأمر ملك للشعب وليس ملكاً للدولة. هذا هو الحق الأول. ومن ناحية أنه ملك عام للشعب لا ملك خاص كالموارد التي ذكرتها آنفاً. فهو مُلك في المآل لا في الحال. أما في الحال فهو مُلك الحكومة. هذا هو الحق الثاني.

وملكية الحكومة أو الدولة لهذا القسم من المال تعني أن للحكومة – وليس للشعب – حق التصرف فيه وصرفه في الأنشطة التي تخدم المجتمع مثل الصحة والتعليم والجيش والقضاء والخدمات. وليس بمعنى أن أفراد الحكومة لهم حق التصرف فيه لمصالحهم الخاصة.

دعونا ندرس التسلسل التاريخي لهذا القسم من المال، وكيف كان عامل بناء، ثم تحول إلى عامل هدم..

1. تراكمت الموارد في بيت المال على عهد عمر، ولم تكن الدولة آنذاك قد تدرجت في سلّم المدنية ليمكنها تصريفه في مناشط عامة كثيرة. فوجد عمر أن أفضل وسيلة للتعامل معه هو توزيعه بين المسلمين. فاستحدث (ديوان العطاء). وقد ذكر البلاذري اعتراضاً ذكياً من أبي سفيان بن حرب، على هذا التصرف يدل على بعد نظر وتحسب للعواقب والمآلات ورثها عنه ابنه معاوية، فقال: “أديوان مثل ديوان بني الأصفر؟ إنك إن فرضت للناس اتكلوا على الديوان وتركوا التجارة، فقال عُمَر: لا بد من هذا فقد كثر فيء المسلمين”([9]). لم ينكر عمر على أبي سفيان تخوفه، لكن هذا هو الحل المتوفر أمامه في ذلك الوقت.

2. من الناحية الشرعية لم يكن هذا التصرف واجباً على الدولة، وإنما هو رأي واجتهاد رآه عمر، ولم يقدم الآخرون – كما يبدو – اقتراحاً أمثل. بمعنى أن عمر بن الخطاب لو لم يقم بتقسيم المال على الناس، وإنما اتبع بدائل أُخرى مثل: إقراض المال للمتاجرة والمزارعة وما شابه من وجوه الاستثمار حسب ضوابط مناسبة، على أن يعود رأس المال، أو المضاربة به مع الناس على نسبة معينة ولتكن خمسة بالمئة للخزينة وباقي النسبة للمضارب.. لما كان عليه من بأس من ناحية الشرع.

3. في النصف الثاني من خلافة عثمان برزت مشاكل كأثر جانبي لهذا التصرف؛ طبقاً لظاهرة نفسية جمعية لم يُـلتفت إليها. وهي (أن فضل الإحسان إذا تكرر بصورة راتبة واستمر جريانه، ومرت عليه فترة مناسبة تحول لا شعورياً في قرارة نفس المحسَن إليه من مرتبة الفضل إلى مرتبة الوجوب). ومتى ما وصلنا إلى هذه النقطة فقد دخلنا في دائرة الخطر). ودخلت الأمة كلها في دائرة الخطر.

4. لقد تحول العطاء في نظرة الشعب إلى حق من حقوقه، وإلى واجب من واجبات الحكومة عليها أداؤه تجاهه غير محمودة ولا مشكورة.

5. بعد فترة تجاوز الناس هذه النظرة إلى ما هو أسوأ. فإذ أصبح توزيع المال من قبل الدولة على الناس حقاً من حقوقهم. إذن على الحكومة أن توزعه حسب ما يرون هم لا حسب ما ترى الحكومة. فسلبوا الحكومة حقها الخاص في كيفية تصريف المال، متبعين المتشابهات ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله حسب ما تشتهي أنفسهم وترتضي أهواؤهم.

وصل تدخل الناس في حق الخليفة في تصريف مال الخزينة حداً مقرفاً. فقد روى ابن حبان بسنده عن أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري قال: سمع عثمان أن وفد أهل مصر قد أقبلوا، فاستقبلهم، فلما سمعوا به، أقبلوا نحوه إلى المكان الذي هو فيه، فقالوا: له ادع المصحف، فدعا بالمصحف، فقالوا له: افتح السابعة، قال: وكانوا يسمون سورة يونس السابعة، فقرأها حتى أتى على هذه الآية: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس:59] قالوا له: قف، أرأيت ما حميت من الحمى، آلله أذن لك به أم على الله تفتري؟)([10])!! أين أنت يا عمر!

لقد ارتقى الفساد في هذه المرحلة درجة خطيرة، صار فيها الناس يتدخلون وبصورة فجة في حق الدولة الخاص؛ اعتماداً على حق لهم غير محدد عام. كان أول المعترضين هم الأقل حصة في القسمة، حتى طلبوا من الخليفة “ألا يأخذ أهل المدينة عطاءً”[11]! فكان إذا لحق لاحق من ناشئ أو أعرابي أو محرَّر استحلى كلامهم فكانوا في زيادة حتى غلب الشر. ولجأوا إلى رفع شعار المساواة تحقيقاً للعدل المفقود كما يدّعون.

6. من ناحية أخرى أوجد العطاء اكتفاء مادياً، وفر للنفوس المريضة بالهوى أو الجهل متسعاً من الوقت وفراغاً لم يجدوا ما يشغلونه به سوى الخوض في مجريات الأمور في مركز الخلافة، ومحاولة التدخل في شؤونها، والاعتراض على بعض الإجراءات التي كانت تصدر من الخليفة أو نوابه في المركز أو الأقاليم، على قاعدة (الجيش الذي لا عمل له يجيد المشاغبات). والإنسان إذا حقق الاقتصاد تاق إلى السياسة. فتجاوزوا حدود العلاقة الرابطة بينهم وبين الخليفة، مستغلين تساهله وغلبة الرحمة والتسامح على علاقته بهم، فاختلت هذه العلاقة بين الطرفين وأدى ذلك إلى التصادم بينهما آخر الأمر.

7. أحس الخليفة عثمان بن عفان بأن العلة الرئيسة وراء هذه الفتنة هي الفضل الذي انقلب في الأنفس المريضة إلى واجب لا شكر عليه؛ فرأى أن يوقف هذا العطاء الزائد، إلا ما كان راتباً عن عمل محدد يؤدى. فقام في الناس خطيباً فقال: (ألا من كان له زرع فليلحق بزرعه، ومن كان له ضرع فليلحق فليحتلبنه. ألا إنه لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهذه الشيوخ من أصحاب محمد). لكن الأوان قد فات هذا العلاج المتأخر جداً. وكانت نتيجته أن ” غضب الناس، وقالوا: هذا مكر بني أمية”([12]). وما زالت الأمور تتطور حتى انتهت بانقلاب قتل فيه الخليفة عثمان بن عفان، وهز أركان الدولة. وتمخض عن تحكم أهل الفتنة بشؤون الدولة على عهد الخليفة الجديد علي بن أبي طالب.

لا بد لهذه الوضع أن يتغير، ولهذه السياسة إذن أن تصلح، ويجرى عليها التعديل المناسب. وإلا تكررت المأساة بدرجة أشد وأفظع!

تجديد معاوية في السياسة المالية

للخير باب يفضي إلى رحاب واسع، وللشر باب يؤدي إلى نتائج لا تضبط. والمقصود بالباب هو الأساس والفكرة الرائدة التي تمثل الأصل الذي يبنى عليه. فما هو الأساس الذي بنى عليه معاوية سياسته المالية؟

لقد غير معاوية الأساس الذي بنيت عليه السياسة المالية في العهد السابق وهو صرف المال في مصالح الناس كأفراد، إلى أساس آخر هو صرف المال في مصالح الناس كمجموع.

أي استعمال المال أولاً في تدعيم الدولة وتثبيت أركانها وتشييد مؤسساتها في بُناها العلوية والتحتية: العسكرية والأمنية والقضائية والتعليمية والخدمية وغيرها. فما فائدة بذل المال كله لشعب انقسم قسمين: قسم يتقوى بهذا المال على هدم الدولة، وقسم آخر يتفرج عاجزاً عن فعل شيء ضد هذا التجاوز الخطير؟!

ساهم المال السابق في تهديم ولاء الناس للدولة فعكس معاوية النتيجة بسيره على ذلك الأساس، وصار المال سبباً في تدعيم ولاء الناس للدولة. وقصير النظر يركز على الفعل مجرداً، ولا يدرك غايته فكرة، ولا نتيجته واقعاً.

وما فعله معاوية في هذه الجزئية هو عين سياسة النبي التي كانت تندرج تحت باب (المؤلفة قلوبهم). لكن ذا الخويصرة اعترض عليه حتى تجاوز قدره فقال له: “اعدل يا محمد؛ إنها والله قسمة ما أريد بها وجه الله”! وهو عين ما قاله ويقوله المخالفون لمعاوية حتى اليوم؛ ينظرون إلى الفعل كجزئية مجردة عن أساسها ونتيجتها وحيثياتها. لكن ماذا نفعل إذا كان كثير من الناس: جمهوراً ونخبة باتوا من طراز (ذي الخويصرة) بسبب تلك الثقافة السائدة الفاسدة!

لقد كانت السياسة السابقة تستعمل المال في مصلحة الأفراد، فعمل معاوية على سياسة جديدة تميل إلى استعمال المال في مصلحة الدولة، ومن خلال هذه المصلحة العامة تتحقق المصالح الخاصة للأفراد. ولم يكن في ذلك بخس لحق أحد؛ فحقوق الأفراد المالية المبينة بالشرع مكفولة لا تجاوز فيها عليهم. وإنما الكلام في المال الذي في خزينة الدولة (بيت المال). وهو، وإن كان في النهاية موضوعاً لخدمة الناس، لكنه من ناحية ثانية وهي طريقة التصرف فيه، هو حق الدولة المحض، بعد أن أدي في أصله حق الناس. مثل خمس الغنيمة بعد صرف أربعة أخماسها على مستحقيها: لا شأن للناس في تحديد طريقة التصرف فيه وتوجيهها. كما أنه لم يرد في الشرع تفصيلاً فيها؛ فيكون الحق في طريقة تصريفه في نهاية المطاف لولي أمر الناس، وليس للناس. وهذا ما عناه معاوية بقوله: “إنما المال مالنا والفيء فيئنا، من شئنا أعطينا ومن شئنا منعنا”([13]). لا كما فهمته الظنون الآثمة للمخالفين.

وإذ المال مال الدولة فلها الحرية في كيفية إنفاقه أو توزيعه. فعمل معاوية على توجيه عامة مال خزينة الدولة إلى ما يعود على الدولة أو الشعب ككل بالفائدة. مثل رواتب الجند وتكاليف تصنيع السلاح وأدوات الجهاد القديمة والمستحدثة مثل صناعة السفن وبناء الأساطيل حفاظاً على إدامة الفتوح ونشر الإسلام. ورواتب الحرس والشرطة وأجهزة الاستخبارات وما يقوم على توطيد الاستقرار والأمن الداخلي. ومصارف الزراعة وما تحتاجه من إصلاح الري وحفر الأنهار وإحياء الموات وغيرها من الاحتياجات. ومصارف (المؤلفة قلوبهم) لترسيخ ولائهم للدولة وكف شرهم عن الفتن. وكذلك مصاريف مؤسسات الدولة الأُخرى: القديمة والمستحدثة، مثل ديوان الخاتم والبريد والخراج والتعليم. وما يصرف للفقهاء وطلبة العلم، وعمارة المساجد وبناء المدن وعمارة البلدان وغيرها من المصارف التي تعود بالنفع الخاص على أفراد الناس، ولكن من خلال مؤسسات النفع العام للدولة.

وقد كانت الدولة مهتمة بذلك إلى حد لا يتخيله المتأخرون. فمن ذلك أن والي الموصل في عهد هشام بن عبد الملك، وفي وقت كانت ترزح فيه خزينة الدولة تحت ضغط مواجهة الأخطار الخارجية، قام بإنشاء مشروع رئيس لجر المياه عبر المدينة، وذلك بحفر قناة متفرعة من نهر دجلة تمر بالمدينة، تبنى عليها ثماني عشرة طاحونة، كلفتها ثمانية ملايين درهم. أنجز المشروع سنة (121هـ) بعد (15) سنة، وعمل عليه (5000) رجل([14]). إن هذا التصرف في استثمار المال العام وتدبيره أولى وأنفع للناس ألف مرة من صرفه عن طريق التوزيع المباشر عليهم.

كانت هذه السياسة من أكبر عوامل الإصلاح والتجديد الذي عمله معاوية؛ وكانت الأمة آنذاك في أمس الحاجة إليه.

سياسة وسط .. تحفظ ميزات القديم وتلبي طلبات الجديد

ما من شك في أن نصيب الناس من الموارد المحددة لهم شرعاً، كالزكوات والصدقات والغنائم وغيرها، لم تتأثر بالتغييرات الجديدة. وكذلك أعطيات النساء والمواليد الجدد. ومستحقات النوازل والكوارث التي تحل بالناس، وحقوق المرضى مثل العميان والمجذومين. فلم يوقف معاوية العمل بـ(ديوان العطاء) كلياً، لكن من المؤكد أن الأساس الذي سار عليه معاوية في سياسة المال أثر عليه كثيراً، ولصالح الدولة: شعباً وحكومة.

وقد ورد ما يشير إلى هذا، من أن معاوية خطب الناس فبيّن لهم أن المال مال الدولة تتصرف فيه بما تشاء مما تراه قائماً بمصالح الناس وإصلاحهم، وليس هو مال الناس يتصرفون فيه بما يشتهون وليس للحكومة غير إجراءات الصرف. والنص الوارد عنه في ذلك قوله: “إنما المال مالنا والفيء فيئنا، من شئنا أعطينا ومن شئنا منعنا”([15]). لكن يبدو أن النص حصل فيه تصرف من القادحين والمادحين على السواء. أما القادحون فقد جعلوا النص دليلاً على تعسف معاوية وتصرفه بالمال خارج ضوابط الشرع. مع أن ما يشبهه ورد عن عثمان بن عفان حين خطب الناس أيام الفتنة فقال: فقال: (ألا من كان له زرع فليلحق بزرعه، ومن كان له ضرع فليلحق فليحتلبنه. ألا إنه لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهذه الشيوخ من أصحاب محمد). وقد مر قريباً ذكره. لكن الانحياز أعور.

وأما المادحون فقد أشكل عليهم النص – كما أرى – فوضعوا له زيادة أفادت بأن معاوية إنما قال ذلك اختباراً لغاية دينية سامية، ولم يقله مؤمناً به متبنياً له. ولو نظروا إلى النص نظر من عرف السياسة الشرعية في المال، ودرس الوضع الاجتماعي في تلك الفترة، لوضعوا القول موضعه. وعلموا أن معاوية إنما أراد بذلك أنه لا حق للناس في التحكم بمصارف هذا المال، فهذا الحق كله للدولة تعمل فيه ما تشاء من المباحات والمستحبات والواجبات على ما يرى القائمون عليه من أهل الشأن والتكليف والخبرة وأولهم الخليفة، لا على ما يرى عامة الناس ممن لا شأن لهم ولا تكليف ولا خبرة. والمال بهذا الحق مال الدولة ممثلة بالخليفة ونوابه والفيء فيئها؛ تعطي من تشاء وتمنع من تشاء. وليس هذا نفياً لحق الناس العام فيه.

إن الشيء ينفى باعتبار ويثبت باعتبار. كما أثبت الله تعالى مشيئة العبد فقال: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) (الإنسان:29)، ثم نفاها فقال: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (الإنسان:30). فتلك مشيئة السبب، وهذه مشيئة القدر. وليست مشيئة القدر تجري اعتباطاً – حاشى لله! – بلا حكمة؛ لذا عقّب عليها فقال: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) (الإنسان:30). وعلى هذا قول معاوية: “من شئنا أعطينا ومن شئنا منعنا”؛ فليس هو عطاء ومنع بلا ضوابط مشروعة معقولة.

وفي هذا المعنى يروي ابن تيمية في (منهاج السنة:6/234) فيقول: روى محمد بن عوف الطائي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا ابن أبي مريم، عن عطية بن قيس قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطبنا يقول: “إن في بيت مالكم فضلاً بعد أعطياتكم، وإني قاسمه بينكم، فإن كان يأتينا فضل عاماً قابلاً قسمناه عليكم، وإلا فلا عتبة عليّ، فإنه ليس بمالي، وإنما هو مال الله الذي أفاء عليكم”[16]. فهنا يقول معاوية بأن المال ليس ماله وإنما مال الناس الذي أفاءه الله عليهم. فالنفي باعتبار والإثبات باعتبار. اعتبرفي الأول حق التصرف فنفى، واعتبر في الثاني حق النفع فأثبت.

وفي النص ما يفيد أن معاوية اختط خطاً وسطاً بين عوائد العهد الماضي ومطالب العهد الراهن. وأنه سار على سياسة استعمال المال في مصلحة الدولة أو الصالح العام، لكنه لم يهمل استعماله في مصالح الأفراد.

ولم يكن معاوية ممن يتصرف بالمال دون شعور بالمسؤولية الشرعية، حاشى وكلا. لكنه كان يجتهد كما يجتهد غيره ممن سبقه مثل علي والحسن، أو لحقه كعمر بن عبد العزيز. ومما يدل على حرصه على سلامة دينه في المال أنه لما حُضر أوصى بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال. كان أراد أن يطيب له الباقي لأن عمر قاسم عماله”([17]).

كما أنه نتيجة وقوع حوادث غش وتلاعب في الكتب التي تتضمن صرف المال، استحدث معاوية الخاتم وديوان الخاتم. “وصار هذا الديوان الجديد من أهم معالم القواعد المالية الجديدة زمن الأمويين، فكانت له نظم دقيقة، وعمال يقظون، فإذا صدر توقيع من الخليفة بأمر من الأمور أُحضر التوقيع إلى ذلك الديوان، وأُثبتت نسخته فيه، وحُزم بخيط، وختم بشمع، وختم بخاتم صاحب الديوان”[18].

 

ثالثاً : التجديد في مجال الأمن

اهتم النبي بتحقيق الأمن الشخصي منذ أن بعث بالنبوة فكان في جوار عمه، وكان يبحث بين القبائل عمن يمنعه ليبلغ دعوة ربه. ثم اتخذ له حرساً في المدينة. فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: أرق النبي ذات ليلة فقال: (ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة)، إذ سمعنا خشخشة سلاح قال: (من هذا)؟ قال: سعد بن أبي وقاص يا رسول الله جئت أحرسك. فنام النبي حتى سمعنا غطيطه.

وبقي على ذلك حتى نزل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (المائدة:67)، قال ابن كثير في (تفسيره): “أي بلغ أنت رسالتي وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم؛ فلا تخف ولا تحزن فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك. وقد كان النبي قبل نزول هذه الاَية يحرس. ثم أورد ابن كثير روايات عديدة في أن النبي صرف الحرس بعد نزول الآية[19].

وهذا شيء خاص بالنبي ليس لأحد غيره. فكيف يقتل عمر ثم عثمان ثم علي لو كان لهم حرس؟ ولمَ لمْ يتخذوا حرساً وليس لهم عصمة من الله؟ ولماذا يرفض عثمان عرض معاوية عليه قبل مقتله بسنة إرسال كتيبة شامية لحراسته؟ كانت الاطمئنان بالإيمان قد زاد بحيث ترك الخلفاء الأوائل ما لم يتركه رسول الله قبل نزول الخبر الرباني بحراسته من قبله سبحانه. وانتقل علي إلى بيئة الكوفة الموبوءة بالفتن فلم يدفعه تغير البيئة وأخلاق الناس إلى التحفظ وحماية نفسه بحرس يحوطه فقتل لدى باب المسجد عند الفجر.

لا يمكنني أن أفهم هذا التصرف فهماً مجتزءاً يقتصر على مفردة الحراسة فقط. بل إن هذا مظهر واحد من مظاهر بقاء العوائد عند الجيل الأوائل كما هي عليه دون التأثر بمتغيرات الواقع. فاحتاج الزمن إلى تغيير لا يقدر عليه ذلك الجيل بما طبع عليه من عوائد وزهد وبساطة منبعها إيمان بالأقدار لم يتوازن باتخاذ الأسباب، كما هو شأن النبي .

لم يقتصر النبي على أمنه الشخصي بل اهتم بالأمن العام. ودل البحث على أن له جهاز استخبارات لا يترك شاردة ولا واردة في بيئته إلا وجاء بها إليه، سواء ما كان يدور في مكة قبل الفتح وما بعده أو المدينة أو بقية الأصقاع كخيبر وغيرها. وكان على رأس هذا الجهاز في مكة عمه العباس الذي كان يكتم إيمانه. وربما كان حذيفة بن اليمان في المدينة كعباس في مكة؛ إذ كان يسمى (صاحب سر رسول الله)، واختصه النبي بأسماء المنافقين. ولنا العذر في أن نستنطق الإشارات لنستخبر ما وراءها؛ فإن هذا العمل مبني على السرية والكتمان، ويبدو أنه بقي لكذلك حتى مات وانطوى بموت أصحابه، فلم تصلنا تفاصيل عنه. وإلا ما قيمة معرفة شخص بأسماء مجموعة من المنافقين لولا أن ذلك يعينه في مراقبتهم وتتبع حركاتهم، والله أعلم.

وكان للنبي عيونه حتى وهو في مكة، وحادثة الهجرة بنيت على عمل استخباري دقيق قام به آل أبي بكر: عبد الله وأسماء. والمتابع للسيرة يقع على كثير من الحوادث التي لا تحتاج إلا إلى خيط رفيع يربط بينها لتبرز أمامه صورة متكاملة لجهاز استخباري محكم كان يعمل في خدمة الدولة الناشئة بقيادة النبي العظيم محمد ! ومن ذلك أنه استفاد من حلف قديم بين خزاعة وجده عبد المطلب فكسب ودها فكانت حليفة له. ومما خدمته به الأخبار التي كانت تبعثها إليه عن قريش. جاء في (السيرة الحلبية): “كانت خزاعة، مسلمها ومشركها لا يخفون عليه شيئاً كان بمكة، بل يخبرونه به وهو بالمدينة، وكانت قريش ربما تفطن لذلك”([20]).

لا نقول: إن الدولة على عهد الخلفاء الراشدين الأربعة لم يكن لها جهاز استخباري لحماية الدولة. بل كان لها هذا الجهاز منذ عهد أبي بكر الصديق، كامتداد للجهاز الاستخباري النبوي. وكان فعالاً جداً في كشف المؤامرات: الخارجية والداخلية ومواجهتها وإحباطها، ومنها حركة الارتداد التي واكبت أول خلافة الصديق. ولست بصدد تفصيل ذلك. وكان في جهاز استخبارات الدولة على عهد الفاروق شعبة خاصة لمراقبة الولاة وموظفي الدولة، أسندت رئاستها إلى الصحابي الجليل محمد بن مسلمة.

ولكن من حقنا أن نسأل: فأين غَناء هذا الجهاز في حماية رأس الدولة وقد قتل ثلاثة منهم على التوالي؟ وأرى أن معادلة الموازنة بين القدر والسبب اختلت لصالح الاعتماد على القدر وضمرت في جانب اتخاذ السبب فيما يخص الأمن الشخصي للخليفة. وذلك لأن زيادة إيمانه وتقواه كانت تذهله عن ملاحظة كون أمنه الشخصي ليس مبتوتاً عن أمن الأمة؛ فما يصيبه من خير أو شر فيه ينعكس في مآله على الأمة في الناحيتين. كالماء في صدره مهما يكن عليه من حال يتوزع – ولا بد – في سواقيه.

 

لا بد من تجديد وتغيير لمعادلة الأمن المختلة

من الأمور التي تهاون بها العهد السابق فكانت سبباً في مقتل ثلاثة خلفاء على التوالي، اتخاذ التحوطات الأمنية لحماية قادة الدولة خصوصاً الخليفة، وعاصمة الخلافة. وقد تطور القتل من الاغتيال إلى الانقلاب فالسيطرة على زمام الدولة. كان معاوية يؤلمه هذا الوضع، لكنه لم يكن يستطيع أن يفعل شيئاً في غير خاصة إمارته كان عامل الإيمان طاغياً على عامل الأمن. حتى إذا آلت إليه الخلافة عمل على اتخاذ التدابير اللازمة لتوطيد الأمن. ومن هذه التدابير..

 

1. اتخاذ الحاجب

الحاجب: بمثابة حارس البوابة المؤدية إلى الخليفة؛ وذلك لحمايته أولاً ولترتيب لقاءاته بالناس ثانياً صيانة لوقته. وقد اتخذ معاوية الحاجب – كما روى الطبري[21] – بعد تعرضه لمحاولة الاغتيال التي كادت تودي بحياته، والتي أسفرت عن مقتل أمير المؤمنين علي وصاحب شرطة عمرو بن العاص في مصر. وذلك كله في ليلة واحدة! يقول ابن خلدون: “كان أول شيء بدأ به في الدولة شأن الباب وستره دون الجمهور، لما كان يخشون على أنفسهم من اغتيال الخوارج وغيرهم، كما وقع بعمر وعلي ومعاوية وعمر بن العاص وغيرهم. مع ما في فتحه من ازدحام الناس عليهم وشغلهم بهم عن المهمات، فاتخذوا من يقوم لهم بذلك وسموه الحاجب”. ورويت أخبار كثيرة تؤكد أن الحاجب يشترط فيه أن يعرف منازل الناس وأنسابهم وطبقاتهم، لكي يتمكن أن يعرف من يأذن لهم، ومن لا يأذن لهم.

 

2. اتخاذ الحرس الخاص

قال الطبري بعد ذكره تلك المؤامرة: “وأمر معاوية عند ذلك بالمقصورات وحرس الليل وقيام الشرطه على رأسه إذا سجد”.

 

3. تأسيس جهاز استخباري متين للداخل والخارج

يدل استقراء حوادث التاريخ أن معاوية أنشأ جهازاً استخبارياً قوياً يتتبع حركات أعداء الخارج من الدول التي تتربص الشر بدولة الإسلام، وأعداء الداخل من الأحزاب والأفراد والقبائل والخصوم. مثل اطلاعه على المراسلات المتبادلة بين الحسين وأهل العراق، وكشفها للحسين نفسه طالباً منه أن يتقي الله ولا يشق عصا الأمة[22]. هذا في الداخل.

ومن شواهد قوة استخبارات الخارج على عهد معاوية: واقعة الأسير المسلم عند البيزنطيين، الذي لطم وجهه بين يدي إمبراطور الروم من قبل أحد قادته المقربين فصاح الأسير: وا إسلاماه أين أنت يا معاوية؟ أو قال: وا معاوياه!

ووصل الخبر إلى معاوية.

فدبر مع جهاز الاستخبارات خطة محكمة أشرف عليها بنفسه تمكنوا بها من خطف ذلك القائد، والإتيان به من القسطنطينية إلى دمشق ليقتص منه الرجل المسلم. ثم أطلق معاوية سراحه وقال له: قل لملكك: تركت ملك الإسلام يقتص من أصحاب بساطك. وأوصلوه إلى مأمنه فعاد بالخبر العجيب إلى ملك الروم ووصف له ما صنع به معاوية، فقال: هذا ملك كبير الحيلة. فعظم معاوية فى أعينهم وفى نفوسهم فوق ما كان. والواقعة من عجائب قصص الاستخبارات العالمية، التي تدل على مدى استحكام جهاز المخابرات الخارجية وفعاليته على عهد معاوية. وهي جديرة بالاطلاع[23].

في بحث بعنوان (تطور جهاز الاستخبارات الأموية)[24]، جهد كبير بذله كاتبه جلى فيه هذا الموضوع تجلية ممتازة، أقتطف منه هذه الشذرات..

  • بلور الأمويون نظرية أمنية تقوم على أساس متين هو أن (الأمن لا يتجزأ).
  • من مخرجات هذه النظرية العلاقة العضوية بين الأمن والعدل. فحرصوا على حصانة المؤسسة القضائية وعدم التدخل بأحكامها. وعين معاوية رجلاً على حوائج الناس يرفع مظالمهم ومطالبهم إليه مباشرة؛ حرصاً على عدم حجب أي مظلمة عنه.
  • ومن مخرجاتها توفير الأمن الغذائي والاجتماعي من خلال إحصاء المواليد الجدد وفرض العطاء لهم. ورعاية أصحاب العاهات، وقضاء الدين عن الغارمين، وتزويج الأيامى والعازبين. وتوفير الخدمات للمواطنين.
  • ومنها ضمان حرية التعبير: وهذا يزيل الاحتقان الشعبي، ويمنح الدولة فرصة مناسبة لتشخيص الظواهر الفكرية الشاذة ووضع العلاجات المناسبة لها. وقد وضع معاوية قاعدة ذهبية لإرساء حرية التعبير بقوله: “لا نحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين مُلكنا”.
  • كان الجهاز الاستخباري الداخلي الذي أنشأه معاوية متعدد المهام..
  • منها مراقبة رؤساء الفرق الغالية والمناوئة، ووضع الحلول المناسبة لها. وقد خصص لهؤلاء دائرة للإحصاء والمتابعة في بعض الأقاليم القلقة.
  • ومنها متابعة الولاة وكبار موظفي الدولة. وأسند معاوية مهمة جمع الأخبار عن هؤلاء إلى صاحب (البريد). وكان بمثابة المدير العام لجهاز استخبارات الدولة. وكان له نواب في جميع الأمصار يزودونه بكل صغيرة وكبيرة فيها. وهو بدوره يقدم ملخصاً عنها للخليفة دون تأخير. لهذا اهتمت الدولة بتنظيم البريد لضمان وصول الأخبار بأسرع ما يكون.
  • وحفاظاً على سرية المعلومات والرسائل أنشأ معاوية (ديوان الخاتم)، فرصد له المال والرجال لخدمته وضمان مصداقيته وصيانته من التزوير، وكان لا يخرج كتاب من دواوين الدولة إلا مختوماً مع التشدد في التثبت من صحة الختم.
  • وكان هناك جهاز استخباري خارجي لمواجهة استخبارات الأعداء من الروم والقوط والهند والصين وغيرها.
  • من مهام هذا الجهاز مكافحة التجسس الدبلوماسي، فكان ولاة الدولة على علم بأن للسفراء مهاماً أمنية غير تسليم الرسائل، فاتخذوا التدابير التي تمنعهم من الوصول إلى أية معلومة تخدمهم. وكان تحصين سفراء الدولة الإسلامية بالعديد من الوصايا والتعليمات الاستخبارية حتى لا تستل منهم أي معلومات تفيد العدو وتضر بالدولة.
  • وتنبه معاوية منذ أن كان والياً إلى ضرورة إظهار أبهة الملك لسفراء وجواسيس الأعداء حتى لا يطمعوا بالدولة. فكان يحصن الثغور ويبث العيون ويغدو في موكب ويروح في موكب.

وإذا كانت الأمور تدرك بنتائجها أيضاً، فإن هذه التدابير الاستخبارية الحكيمة نجحت في قطع خط سلسلة الاغتيالات التي كانت تستهدف رأس الدولة، وقطفت الثلاثة الذي سبقوا معاوية منهم. وتمكن معاوية من الاستمرار عشرين سنة دون أن تهدد حياته مؤامرة تذكر.

 

رابعاً : التجديد في مجال الجهاد

التجديد هو العودة بالشيء إلى ما كان عليه.

وإذا كان الجهاد قد توقف منذ أخريات عهد عثمان بن عفان لانشغال الدولة بحركة الفتنة، وطوال عهد علي والحسن.. فإن الذي عاد بالجهاد إلى ما كان عليه هو معاوية بن أبي سفيان. ثم زاد فطوره. ثم زاد فأحدث أنواعاً من الجهاد لم يسبقه من جاء قبله من الخلفاء إليها، في مقدمتها غزو البحار.

فتح

وهذه إلمامة عجلى بذلك على قدر تحقيق المطلوب من تجلية هذا المعنى..

 

الجبهة الغربية

“كانت الغارات على بلاد الروم أثناء خلافة معاوية لا تنقطع صيفًا أو شتاءً، وكان الغرض من هذه الغارات استنزاف قوة العدو. ومن أشهر القواد المجاهدين في بلاد الروم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وبُسْر بن أرطأة الذي تقدم على رأس شاتية عام 43هـ حيث اقترب من القسطنطينية. ومالك بن هبيرة، وأبو عبد الرحمن القيني، وعبد الله بن قيس الفزاري، وفضالة بن عبيد الأنصاري، وغيرهم كثير.

كان هدف هذه الغزوات جميعها القسطنطينية.

وفي عام 50 هـ جهز معاوية حملة كبيرة من البر والبحر لتغزو القسطنطينية، وأعطى قيادة جيش البر لسفيان بن عوف الأزدي، وجعل ابنه يزيد في قيادة الحملة إلا أن يزيد لم يخرج مع الحملة. أما الأسطول فقد قاده بسر بن أرطأة. وحوصرت عاصمة الروم، وجرت اشتباكات بين الطرفين خسر فيها المسلمون خسائر كبيرة؛ فعمل معاوية على إرسال نجدة كبيرة بقيادة ابنه يزيد ومعه أبو أيوب الأنصاري، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن العباس. وبوصول النجدة ارتفعت معنويات المجاهدين فاشتد الحصار وأصاب المسلمون من الروم وإن لم يستطيعوا فتح القسطنطينية، وقد استُشهِد في هذا القتال أبو أيوب الأنصاري وعبد العزيز بن زرارة الكلابي، وقد كانا على رأس الذين يثيرون حماسة المجاهدين.

استطاع معاوية أن يضيق الخناق على الدولة البيزنطية بالحملات المستمرة والاستيلاء على جزيرتي رودس وأرواد.

كان لجزيرة أرواد أهمية خاصة لقربها من القسطنطينية، حيث اتخذ منها الأسطول الإسلامي في حصاره الثاني للمدينة أو حرب السنين السبع 54-60 هـ قاعدة لعملياته الحربية، وذلك أن معاوية أعد أسطولاً ضخمًا وأرسله ثانية لحصار القسطنطينية، وظل مرابطًا أمام أسوارها من سنة 54 هـ إلى سنة 60 هـ.

كانت هذه الأساطيل تنقل الجنود من هذه الجزيرة إلى البر لمحاصرة القسطنطينية. وقد أرهق هذا الحصار البري والبحري والبيزنطيين كما أنزل المسلمون بالروم خسائر فادحة، وعلى الرغم من ذلك فلم يستطع المسلمون فتح القسطنطينية..

ومن أجل بناء أسطول إسلامي بحري قوي، أقام معاوية رضي الله عنه دارًا لصناعة السفن البحرية في جزيرة الروضة بمصر عام 54 هـ.

كما نفذ معاوية خطة لنقل أعداد من العرب المسلمين إلى الجزر في البحر الأبيض المتوسط لحمايتها ونشر الإسلام على ربوعها.

فتم نزول المسلمين بصقلية عام 48هـ، واستطاع فضالة بن عبيد الأنصاري فتح جزيرة (جربا) عام 49هـ وقد سار إليها على رأس شاتية في ذلك العام.

فتح 2

وعندما تولى معاوية بن حديج أَمْرَ المغرب فتح بنزرت عام 41هـ، كما دخل قمونية موضع القيروان عام 45هـ، وأرسل عبد الله بن الزبير ففتح سوسة في العام نفسه. ورجع معاوية بن حديج إلى مصر فتولى أمر المغرب رويفع بن ثابت الأنصاري، وبقي عقبة بن نافع على برقة ففتح (سرت) و (مغداس) وأعاد فتح ودَّان، ودخل فزَّان، ووصل إلى جنوبها إلى كاوار، ودخل غدامس وقفصة وابتنى القيروان، كما فتح كورًا من بلاد السودان.

وفي عام 50هـ تولى أمر مصر مسلمة بن مخلد فعزل عقبة بن نافع عن أمر المغرب وولَّى أبا المهاجر دينار فوصل إلى المغرب الأوسط، هذا ما كان أيام معاوية في إفريقية.

 

الجبهة الشرقية

أما في الجبهة الشرقية للدولة الإسلامية فقد غزا المسلمون بلاد اللان عام 41هـ، وفتحوا الرخج وغيرها من بلاد سجستان عام 43هـ، ودخل الحكم بن عمرو الغفاري منطقة القيقان في طخارستان وغنم غنائم كثيرة عام 45هـ. كما فتح المسلمون قوهستان. وفي عام 55هـ قطع عبيد الله بن زياد نهر جيحون ووصل إلى تلال بخارى.

فتح 4

وغزا المسلمون في عام 44هـ بلاد السند بإمرة المهلب بن أبي صفرة. كما غزوا جبال الغور عام 47هـ. وكان المهلب مع الحكم بن عمرو الغفاري، وكان سكان المنطقة الشرقية ينكثون بالعهد مرة بعد أخرى، ويعود المسلمون لقتالهم ودخول أراضيهم؛ لذلك نلاحظ أن مناطق تلك الجهات قد فُتِحَت عدة مرات، واستمرت مدة من الزمن على هذه الحال حتى دانت نهائيًا أيام الوليد بن عبد الملك”([25]).

 

وقفة عند غزو البحر على يد القائد العظيم معاوية

يمثل البحر الأبيض المتوسط قلب العالم في قديمه وحديثه، وكان إلى عهد عثمان بن عفان بحيرة رومية خالصة، يجوبون مياهه من غربي مضيق جبل طارق حتى سواحل الشام بلا منازع، ويتخذون من جزره كأرواد وقبرص قواعد عسكرية للانطلاق ضد دولة الإسلام، ولم يكن المسلمون يفعلون شيئاً إزاءها سوى الدفاع عن السواحل من خلال الجهد البري. وكان ذلك يكلفها كثيراً، ولم يكن فعالاً كما ينبغي. وكان الروم يستعيدون احتلال بعض المدن الساحلية. وجاء القائد العظيم معاوية بن أبي سفيان فقلب المعادلة لصالح المسلمين، بحيث سيطر على الحوض الشرقي للبحر الأبيض، وفتح جزر قبرص وأرواد ورودس، وسيطر على جميع المدن الساحلية حتى المحيط الأطلسي. فأيس البيزنطيون من الشرق، وتخلوا عن فكرة طرد العرب من البلاد التي استولوا عليها في شرق المتوسط، واستعادة ما كان لهم من سالف النفوذ والسلطان هناك.

 

معاوية أول من ركب البحر غازياً في سبيل الله

يُعدُّ معاوية أول خائض غمرات البحار، فقد كان مفطوراً على سجية السيادة والقيادة وصناعة الحكم. ويبرز اسم عبدالله بن قيس الفرازي في هذا المضمار، فقد استعمل أميراً على البحار وغزا أكثر من خمسين غزوة ما بين شاتية وصائفة.

تقدم آنفاً ذكر فضل معاوية في القرآن الكريم ضمن الصحابة الذين شهد لهم الله تعالى ورسوله بالجنة والخيرية. وقد روى الحفاظ جملة أحاديث نصصت على فضله. وإني لأرى أن من أعظم ما جاء في فضله على لسان النبي ما رواه البخاري بسنده عن عمير بن الأسود العنسي أنه أتى عبادة بن الصامت، وهو نازل في ساحة حمص، وهو في بناء له، ومعه أم حرام، قال عمير: فحدثتنا أم حرام: أنها سمعت النبي يقول: (أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا). قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: (أنت فيهم). ثم قال النبي : (أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم). فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: (لا).

وكان معاوية قائد الجيش الأول عندما غزا قبرص سنة 27هـ، بينما كان ولده يزيد رحمه الله قائد الجيش الثاني في حصارهم للقسطنطينية.

 

معاوية صاحب فكرة غزو البحر ومنفذها

من الجدير بالذكر أن معاوية هو صاحب فكرة غزو البحر دون منازع. بدأ بذلك في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب . ولم يكن الأمر سهلاً تقبله البتة؛ فالعرب لم تكن لديهم خبرة في ركوب البحر من قبل إلا على مستوى الأفراد والتجارة. أما الدولة فلم يكن لها تجربة سابقة في هذا الشأن. وكان البحر المتوسط بحيرة رومية بامتياز، ومنذ عصور متطاولة. وكان العرب يسمونه (بحر الروم)؛ فلم يكن للعرب طاقة ولا خبرة في مواجهة قوة الروم وخبرتهم الحربية في البحر. وصناعة السفن لا سيما الحربية في حاجة إلى خبرات فنية يفتقدها العرب. كل هذا يجعل البحر عندهم شيئاً مخيفاً ليس من اليسير عليهم اقتحامه عسكرياً، وهم كانوا في جاهليتهم إذا هبت عليهم في وسط البحر ريح عاصف نسوا دينهم من الهلع وتوجهوا إلى الله وحده، كما قال سبحانه: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (يونس:22)!

فلما وَلِيَ معاوية بن أبي سفيان الشام، ألح على عمر الفاروق في غزو البحر؛ وذلك لقرب الروم من السواحل العربية، واحتارَ عمر فلم يدر بم يجيب! فكتب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه أن “صف لي البحر وراكبه فإن نفسي تنازعني عليه”. فكتب إليه عمرو بن العاص قائلاً: “إني رأيت خلقاً كبيراً يركبه خلق صغير. ليس فيه إلا السماء والماء. إن ركد فرّق القلوب، وإن تحرك أزاغ العقول. يزيد فيه اليقين قلة، والشك كثرة. هم فيه دود على عود. إن مال غرق، وإن نجا فرق”. فلما قرأ عمر الفاروق كتاب عمرو بن العاص أرسل إلى معاوية قراره الحاسم: “والذي بعث محمداً بالحق، لا أحمل فيه مسلماً أبداً، وبالله لمسلم واحد أحب إليَّ مما حوت الروم”[26]!

وانتظر معاوية حتى إذا ولي عثمان الخلافة كتب إليه يستأذنه في غزو البحر. وقد استكمل الاستعدادات، فوافق عثمان على طلبه ولكن بشروط، فكتب إليه: “لا تنتخب الناس ولا تُقرع بينهم، خيِّرهم، فمن اختار الغزو طائعًا، فاحمله وأعنه”. ففعل واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الجاسي حليف بني فزارة، فغزا خمسين غزاة من بين شاتية وصائفة في البحر، ولم يغرق فيه أحد ولم ينكب[27]. وأصبحت السفن تُبنى في عكَّا وصور وطرابلس على سواحل بلاد الشام.

 

معاوية يغزو قبرص

وغزا معاوية جزيرة قبرص، وصالح أهها على سبعة آلاف دينار يؤدونها إلى المسلمين كل سنة، وذلك في عام 27هـ، وساعد أهل مصر في تلك الغزوة بإمرة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان معاوية على الناس جميعاً. وكان بين الغزاة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة بن الصامت ومعه زوجته أم حرام، ليتحقق فيها وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روته، وأوردناه آنفاً. فكان معاوية أول من ركب البحر([28]). وأول من دعا إلى ذلك، وأعد له، ونفذه.

وتوالت غزوات البحر على عهد معاوية، وكثرت حتى إن القائد البحري المسلم عبد الله بن قيس نفذ أكثر من خمسين غزوة بحرية بين صائفة وشاتية! وفي سنة 27هـ فتحت جزيرة قبرص. قال جبير بن نفير: لما فتحت قبرص وأخذ منها السبي نظرت إلى أبي الدرداء يبكي، فقلت: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، وأذل الكفر وأهله؟ قال: فضرب منكبي بيده وقال: ثكلتك أمك ياجبير، ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره! بينما هي أمة ظاهرة قاهرة للناس لهم الملك، إذ تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى، فسلط الله عليهم السباء. وإذا سلط الله السباء على قوم فليس له فيهم حاجة.

وفي سنة 30هـ فتح جنادة بن أمية الأزدي جزيرة رودس بين اليونان وقبرص. وفي سنة 34هـ وقعت معركة ذات الصواري الشهيرة بالتعاون بين الإسطول الشامي بقيادة ابن قيس والأسطول المصري بقيادة عبد الله بن أبي سرح، وكانت معركة هائلة هزم فيها الروم هزيمة منكرة. وفتح المسلمون سنة 29هـ جزيرة أرواد مقابل طرطوس. وغزوا جزيرة كريت (اليونانية) أكثر من مرة أولاها سنة 33هـ، وغزوها ثانية سنة 55هـ بقيادة جنادة بن أبي أمية، وسيطروا على أجزاء منها. وغزوا صقلية جنوب إيطاليا عدة مرات أولاها سنة 31هـ لكنهم لم يفتحوها على عهد معاوية.

 

صناعة السفن

كانت السفن قبل الفتح الاسلامي تصنع في الروضة في مصر. ومنها بدأ معاوية صناعة أسطوله الذي غزا قبرص. أنشأ الأمويون دور صناعة السفن في شتى الأمصار، بدءاً من جزيرة الروضة بمصر، ثم أنشأوا دوراً للصناعة في بيروت، وعكا وصور. وكانت تنفرد مصر في صناعتها حتى سنة 49 هـ ثم انتقلت منها إلى ما ذكرنا آنفاً.

وفي نهاية حكم معاوية كان للمسلمين أسطول عظيم يتألف من 1800 سفينة.

“استمرت الدولة الأموية في تطوير صناعة السفن فيما بعد عهد معاوية . وقد أصبحت مناطق دور صناعة السفن الحربية مناطق جذب سكاني، كما أصبحت مناطق جذب وتوطن صناعي، فأصبحت أماكن استثمار خصبة، حيث أنشأت فيها الفنادق، والمطاحن، ونحوها من الأنشطة الأخرى.

وساعد على نمو وتطور هذه الصناعة، ما اتسمت به منذ بداية نشأتها، من دقة التنظيم، ومن صورة هذه الدقة ابتكار وظيفة المشرف العام على دار الصناعة ويسمى متولي الصناعة، ومن أبرز مهامه جمع الطاقات البشرية الفنية العاملة في هذا المجال من نجارين وحدادين وعمال ونحوهما، سواء من الأقاليم المجاورة للصناعة، أو من مختلف أقاليم الدولة، ومن مهامه أيضاً توفير الأدوات الخام، مثل الأخشاب والمسامير وغيره من مستلزمات دار الصناعة، وعليه يمكن القول أن التنظيم كعنصر من عناصر الإنتاج في العصر الحديث ترجع جذوره إلى القطاع العام الصناعي في العصر الأموي، أو (متولي الصناعة).

ومن صور دقة تنظيم هذه الصناعة، الاهتمام بتحديد أجور العمال، وتوفير الكميات الغذائية اللازمة لهم، كما حرصت الدولة على توفير سبل الراحة للعاملين في هذه الصناعة، وكان من بين ذلك رفعها كل ظلم يقع على العامل، وتوفير وحدات سكنية للعمال، والمشرفين على هذه الصناعة بداخل دور الصناعة، كذا وحدات لتموين السفن الحربية بالسرعة والدقة المطلوبة، ونتج عن ذلك كله تطور هائل في حجم الأسطول البحري إبان العهد الأموي.

لقد كانت الدولة البيزنطية متفوقة على الدولة الإسلامية الأموية في ميادين البحر، فاتخذ معاوية الوسائل المناسبة لإضعافها ثم القضاء عليها فيما بعد[29].

 

رسول الله يبشر بغزو معاوية البحر

بشر النبي بهذه الفتوح البحرية العظيمة معبراً عن عظيم فرحه بها!

فقد روى البخاري عن أنس بن مالك أن أُمَّ حَرَامٍ بِنْتَ مِلْحَانَ حدثته اَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي بَيْتِهَا يَوْماً، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ .قالت: فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: (ناس من أمتي، عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة، أو: مثل الملوك على الأسرة). قالت: فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله . ثم وضع رأسه ثم استيقظ وهو يضحك، فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: (ناس من أمتي، عرضوا علي غزاة في سبيل الله) كما قال في الأول، قالت: فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، قال: (أنت من الأولين). فركبت البحر في زمان معاوية بن أبي سفيان، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فماتت.

تأمل استبشاره واستيقاظه ضاحكاً! وتأمل وصفه لعظم فعل الغزاة عند وصفه البحر الذي يركبونه، ليس هو البحر العادي ولو كان لكفى، إنما هم يركبون (ثبجه)! والثبج هو وسط البحر ومعظمه وارتفاعه! وتأمل سرور النبي بهيئتهم (مثل الملوك على الأسرة)! قال الحافظ ابن حجر: “قوله: فقال ناس من أمتي عرضوا علي غزاة، في رواية حماد بن زيد فقال: عجبت من قوم من أمتي. ولمسلم من هذا الوجه: أُريت قوماً من أمتي. وهذا يشعر بأن ضحكه كان إعجاباً بهم وفرحاً لما رأى لهم من المنزلة الرفيعة”. وقال: قال ابن عبد البر: أراد – والله أعلم – أنه رأى الغُزاة في البحر من أمته ملوكاً على الأسرة في الجنة، ورؤياه وحي. وقد قال الله تعالى في صفة أهل الجنة: (على سرر متقابلين). وقال: (على الارائك متكئون). والأرائك: السرر في الحجال”([30]).

وكل هذه العظمة كانت بسبب معاوية؛ فهو صاحب الفكرة والرأي والإلحاح على ذلك. ثم تحمل المسؤولية فتجرأ ليصنع السفن، وزاد فغزا البحر المتوسط حتى جعله بحيرة إسلامية تمثل عزة العرب وشموخ المسلمين!

***

هذه بعض معالم التجديد التي تمت على يد معاوية بن أبي سفيان ! وليست جميعها؛ مثلاً كان لمعاوية يد السبق في تأسيس المكاتب ودور البحث العلمي. “فهو أنشأ بيتاً للحكمة أي مركزاً للبحث ومكتبة… وأنشأ المدارس الابتدائية على صورة كتاتيب[31]. لكن تتبع ذلك كله واحتواءه ليس بالسهل، ويخرج عن مقصود الكتاب.

هكذا استقر الوضع العام للدولة في الحكم والأمن والمال، فانتعشت من جديد وانصلح الحال والتأم الجرح، وعادت الأمة للبناء والنماء وحمل رسالة الإسلام للعالمين. لقد تحقق الأمن السياسي والأمن الاقتصادي، فأطعم الناس من جوع وأمنوا من خوف. وإذا اطمأن الناس فيما يخص أمنهم ورزقهم انتعشوا في دينهم ودنياهم.

___________________________________________________________________________________________

  1. – محطات على طريق التجديد، ص22، د. طه حامد الدليمي، دار عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، 1435هـ – 2014م.
  2. – عيون الأخبار، 1/62، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري. مصدر سابق.
  3. – قال الأستاذ الدكتور محمد بن طاهر البرزنجي في (صحيح تاريخ الطبري) عن قول ابن عباس: السنة للخلال (2/440). وأيضاً سير أعلام النبلاء (3/153). ورواه عبد الرزاق في المصنف (برقم 20985) بسند صحيح.إ.ه. يقصد بالضيق الحصر… عبد الله بن الزبير.
  4. – من فضائل وأخبار معاوية دراسة حديثية، ص37، الشيخ محمد زياد بن عمر التكلة الدمشقي. وقال ثبت من طرق عن عبد الله بن عمر.
  5. – تاريخ ابن خلدون، 2/568، ابن خلدون. مصدر سابق.
  6. – تاريخ الرسل والملوك، 4/403، الطبري. مصدر سابق.
  7. – الدولة الأموية، ص161، د. يوسف العش. مصدر سابق.
  8. – الدولة الأموية، ص161-162، د. يوسف العش. مصدر سابق.
  9. – فتوح البلدان، ص440، أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البَلَاذُري (ت 279هـ)، دار ومكتبة الهلال- بيروت، 1988م.
  10. – سيأتي تخريجه بعد قليل.
  11. – صحيح ابن حبان، 15/358. الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، محمد بن حبان (ت 354هـ)، تحقيق وتخريج وتعليق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة الأولى، 1408هـ – 1988م.
  12. – رواه ابن حبان عن أبي نضرة برقم (6919)، 15/357-361، الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، ابن حبان. مصدر سابق. في قصة مقتل عثمان. قال شعيب الإرنؤوط: (رجاله ثقات رجال الصحيح غير أبي سعيد مولى أبي أسيد فقد ذكره المؤلف في “الثقات”). وذكر مظانه في الكتب، لكنه لم يجزم فيه بشيء: لا صحة ولا ضعفاً.
  13. – سيأتي تخريجه لاحقاً.
  14. – الدولة الأموية المفترى عليها، ص427، د. حمدي شاهين. مصدر سابق.
  15. – أصل النص ( كما في السلسلة الصحيحة للألباني، 4/398-399) هو: أخرجه أبو يعلى (4/1781) من طريق ضمام بن إسماعيل المعافري عن أبي (قبيل) قال: “خطبنا معاوية في يوم جمعة، فقال: إنما المال مالنا والفيء فيئنا، من شئنا أعطينا ومن شئنا منعنا، فلم يرد عليه أحد. فلما كانت الجمعة الثانية قال مثل مقالته، فلم يرد عليه أحد. فلما كانت الجمعة الثالثة قال: مثل مقالته، فقام إليه رجل ممن يشهد المسجد، فقال: كلا بل المال مالنا والفيء فيئنا من حال بينه وبيننا حاكمناه بأسيافنا. فلما صلى أمر بالرجل فأدخل عليه، فأجلسه معه على السرير، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، ثم قال: أيها الناس إني تكلمت في أول جمعة فلم يرد علي أحد، وفي الثانية، فلم يرد علي أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا، أحياه الله، سمعت رسول الله يقول: “سيأتي قوم يتكلمون فلا يرد عليهم يتقاحمون في النار تقاحم القردة”، فخشيت أن يجعلني الله منهم، فلما رد هذا علي أحياني أحياه الله، ورجوت أن لا يجعلني الله منهم”.

    قال الألباني عن الحديث المرفوع: وهذا إسناد حسن لولا أن ابن عقبة لم أعرفه. لكنه قد توبع، فأخرجه أبو يعلى أيضا.. وذكر ما أثبته أعلاه. فكان ما أثبته قد ذكر للمتابعة. والحديث لا يرقى إلى مرتبة الحسن بسبب ابن عقبة. ثم قال الألباني: وأخرج المرفوع منه الطبراني في “الأوسط ” (رقم – 5444) والزيادة له، وقال: “لم يروه عن أبي قبيل إلا ضمام”. قلت: وهما ثقتان، على ضعف يسير في الأول منهما. والحديث قال الهيثمي في “المجمع ” (5/236): “رواه الطبراني في “الكبير” و “الأوسط ” وأبويعلى، ورجاله ثقات”.إ.هـ. قلت: ويتبين من هذا أن الزيادة – وهي القصة – لا ترقى إلى درجة الصحة.

  16. – ورواه الذهبي في (سير أعلام النبلاء، 3/152) فقال: أبو اليمان: حدثنا ابن أبي مريم، عن عطية بن قيس، قال: خطبنا معاوية، فقال: “إن في بيت مالكم فضلا عن عطائكم، وأنا قاسمه بينكم”.
  17. – صحيح تاريخ الطبري، 4/38، د. محمد بن طاهر البرزنجي. مصدر سابق.
  18. – السياسة الشرعية، ص130، مناهج جامعة المدينة العالمية، جامعة المدينة العالمية.
  19. – كان يحرس حتى نزلت هذه الآية: (والله يعصمك من الناس)، فأخرج رسول الله رأسه من القبة، فقال لهم: (يا أيها الناس! انصرفوا فقد عصمني الله). صححه الأباني في (الصحيحة).
  20. – السيرة الحلبية، 3/18، علي بن إبراهيم الحلبي (ت 1044هـ)، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الثانية – 1427هـ. وذكر الشاعر العراقي معروف عبد الغني الرصافي، تفاصيل كثيرة عن هذا بعنوان (استخبارات محمد)، ص492 فما بعدها. في كتابه [(الشخصية المحمدية)، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، ألمانيا، 2002]. والكتاب – على سوئه وجرأته التي لا يقفها حد – فيه درر وعلم كثير.
  21. – تاريخ الطبري، 5/49. مصدر سابق..
  22. – أنساب الأشراف، 3/153، البَلَاذُري. مصدر سابق. وذكر فيه اختلاف الناس من العراق والحجاز بعد وفاة الحسن إلى الحسين ومكاتباتهم إليه ودعوتهم إياه للخروج. ومما ذكره البلاذري: كان رجال من أهل العراق وأشراف أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين يجلونه ويعظمونه ويذكرون فضله ويدعونه إلى أنفسهم ويقولون: إنا لك عضد ويد. ليتخذوا الوسيلة إليه، وهم لا يشكون في أن معاوية إذا مات لم يعدل الناس بحسين أحداً. فلما كثر اختلافهم إليه، أتى عمرو بن عثمان بن عفان، مروان بن الحكم – وهو إذ ذاك عامل معاوية على المدينة – فقال له: قد كثر اختلاف الناس إلى حسين، والله إني لأرى أن لكم منه يوماً عصيباً. فكتب مروان ذلك إلى معاوية، فكتب إليه معاوية: أن اترك حسيناً ما تركك ولم يظهر لك عداوته، وما لم يبد لك صفحته. واكمن عنه كمون الشرى إن شاء الله والسلام. وكتب معاوية إلى الحسين: أما بعد فقد أنهيت إلى عنك أمور إن كانت حقاً فإني لم أكن أظنها بك رغبة عنها، وإن كانت باطلاً فأنت أسعد الناس بمجانبتها، وبحظ نفسك تبدأ، وبعهد الله توفي فلا تحملني على قطيعتك والإساءة إليك، فإني متى أنكرك تنكرني ومتى تكدني أكدك فاتق الله يا حسين في شق عصا الأمة، وأن تردهم في فتنة! فكتب إليه الحسين كتاباً غليظاً يعدد عليه فيه ما فعل في أمر زياد، وفي قتل حجر، ويقول له: إنك قد فتنت بكيد الصالحين مذ خلقت؟! فكدني ما بدا لك! وكان آخر الكتاب: والسلام على من اتبع الهدى.
  23. – نهاية الأرب في فنون الأدب، 6/185-187، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري القريشي البكري التيمي، (ت 733هـ)، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1423هـ.
  24. – مجلة كلية الآداب، العدد 101، جامعة ديالى – كلية التربية الأساسية، بقلم المدرس المساعد أكرم محمد علي خلف التميمي. على الرابط التالي:

    http://www.iasj.net/iasj?func=fulltext&aId=75769

  25. – موقع قصة الإسلام، الدكتور راغب السرجاني. على الرابط التالي: http://islamstory.com/ar
  26. – انظر مثلاً: تاريخ الإسلام، 3/109، الذهبي:. مصدر سابق.
  27. – انظر مثلاً: تاريخ الطبري، 4/260. مصدر سابق.
  28. – في صحيح تاريخ الطبري، محمد بن طاهر البرزنجي/ الخلافة الراشدة/ المجلد الثالث/311-313: كان فيها (سنة ثمان وعشرين) فتح قبرس على يد معاوية، غزاها بأمر عثمان إياه… عن خالد بن معدان قال: أول من غزا في البحر معاوية بن أبي سفيان زمان عثمان بن عفان. وقد كان استأذن عمر فيه فلم يأذن له. فلمل ولي عثمان لم يزل به معاوية حتى عزم عثمان على ذلك بأخرَة. غزا معاوية في سنة ثمان وعشرين قبرس، وغزاها أهل مصر وعليهم عبد الله بن أبي سرح، حتى لقوا معاوية فكان على الناس.
  29. – الدولة الأموية عوامل الازدهارِ وتداعيات الانهيار، 1/272-273، علي محمد الصَّلاَّبي، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، الطبعة الثانية، 1429هـ – 2008م.
  30. – فتح الباري، 11/73،74. مصدر سابق.
  31. – الدولة الأموية، ص 348، د. يوسف العش. مصدر سابق.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى