مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

التثقيف ( السني ) بين الهدم والبناء – القنوات الفضائية نموذجاً

د. طه حامد الدليمي

تحتاج أي مؤسسة إعلامية، بما فيها القنوات الفضائية، التي تتصدى للمشروع الشيعي إلى هدف واضح وهوية محددة، ينبثق منهما منهج مكتوب ولو على شكل رؤوس نقاط، مع شرح مختصر. توضع على أساسه (أي المنهج) برامج للعمل قابلة للتنفيذ طبقاً إلى خطة وضعت سلفاً.

دون ذلك تفقد المؤسسة (أي مؤسسة: إعلامية أم غيرها) البوصلة الموجهة لحركتها نحو الهدف المنشود، ويمسي المنتج المطروح عبارة عن موضوعات تكرر نفسها، يتم التنقل بينها دون رابط يسلكها مع بعضها. وتفقد القدرة على التجدد المثمر. تأمل المناظرات الرمضانية – مثلاً – كيف بدأت؟ وإلام آلت؟ وإلى أين هي ذاهبة؟

بعد مدة يأخذ حماس الجمهور تجاه القناة الفضائية (إذا ضربناها مثالاً) بالخفوت شيئاً فشيئاً، ويستمر الحماس بالتضاؤل والنضوب حتى يضمر الجمهور أو يضمحل. وقد تنتهي القناة بالتوقف التام. وهذا ما لا نرجوه؛ لأن هذه القنوات – مهما كانت – هي آخر ما لدينا من مرتكزات تثقيفية وسط هذه العواصف العاتية من القنوات المخالفة والخاذلة.

من واقع تجربتي لم أجد لما سبق ذكره من عناصر التكوين أثراً ذا قيمة حقيقية؛ فلا فكرة ناضجة ولا منهج موضوع، ولا هدف معين، ولا خطة علمية، اللهم إلا ما لها من صبغة سنية محاطة بغبش يمنعها من الارتقاء إلى مستوى الهوية.

 

أيهما أولى : تغيير الشيعة أم تحصين السنة؟

خذ مثلاً هذا السؤال الخطير: أيهما أولى: تغيير الشيعة أم تحصين السنة؟ وأعني بذلك: أيٌّ من هذين الهدفين هو أولى بأن يقدم على الآخر ويكون الأجدر بالاهتمام؟ علماً أنني لا أقصد بالتحصين مجرد تنفير السنة من التشيع، بل اتخاذ ذلك خطوة أولى نحو بنائهم سنياً وربانياً ضمن مشروع متكامل. وما القناة وأمثالها من أسباب التواصل إلا واجهة نطل منها على الجمهور. مثلها كمثل شاشة الحاسوب بالنسبة لصندوقه (الهارد). ما قيمة الشاشة دون صندوق؟! وصندوقنا في هذه الحالة هو الواقع الذي يتم فيه تحويل الأقوال إلى أفعال. وتأتي القناة تعبر عنه وترصنه وترشده وتدفعه إلى أمام.

طرحت هذا السؤال مرات، وناقشته في البيئة الفضائية فلم أجد من يجيب عنه جواباً علمياً واقعياً مستنداً إلى فكرة ناضجة ورؤية واضحة يقومان على تجربة سابقة. الكل مندفع نحو هدف تغيير الشيعة وتحويلهم إلى سنة، دون الانتباه إلى ما يرافق ذلك الهدف من نواتج عرضية خطيرة. هذا عدا فقدان المشروع المطلوب لاستثمار الناس المتحولين.

 

خطورة المرحلة الثانية للمتحول من التشيع إلى التسنن

مؤكد أن هناك من يستغرب ما قلت آنفاً. ويتساءل: وأين الخطر؟! وأجيب:

ما لم يكن السعي لبلوغ هذا الهدف يمضي طبقاً إلى خطة حكيمة تراعي مدى قدرتنا الاستيعابية للمتحولين، ونبادر إلى ذلك قبل أن يمر زمن تنتقل خلاله عملية التحول من المرحلة الأولى مرحلة الأخذ والاجتياف التي ينشغل فيها المتحول بنفسه وتعرف الدين الجديد والبيئة الجديدة إلى المرحلة الثانية مرحلة العطاء والنضوج المبتسر. ففي هذه المرحلة تظهر آثار الرواسب الشيعية التي استصحبها الشيعي المتحول في دخيلته، ولم تتم معالجتها بسبب عدم وجود خطة متكاملة لتحويله إلى عضو صالح في المجتمع الذي بات ينتمي إليه. إن وجود مثل هؤلاء الذين نضجوا على دخل ودخن في صفوفنا يشكل خطراً كبيراً علينا.

 

بين التجارب السابقة والمعاصرة .. أين الدراسة ؟

للأسف لم أجد حتى اللحظة من دراسة للتجربة الأولى في صدر الإسلام، التي نتج عنها ضم بلاد فارس إلى الدولة الأم. وقد يكون السبب هو النظرة التقديسية للصحابة رضي الله عنهم التي تمنعنا من التفريق بين النظر إليهم كجيل قدوة هو أفضل الأجيال، والنظر إلى تجربتهم التاريخية كفعل بشري يقبل الخطأ والصواب. ولا للتجارب المعاصرة في تسنين الشيعة، وما في التجربتين من خير أو شر؛ كي نحفظ الخير وننميه ونمنع الشر وننفيه.

إن التجربة الأولى رافقها طوفان من البشر جرت أسلمتهم على عجل، ولم يأخذ تغييرهم استحقاقه الزمني الذي تحتاجه التربية للوصول إلى مستوى (أسلم وحسن إسلامه)، كما حصل مع العرب. وتحتاجه العين الساهرة لمؤسسة أمْنِيَّة ذات شقين: ثقافي للتحصين، وسياسي لمتابعة المخربين. فنتج عن ذلك ما نتج من شرور جعلت العراق أكثر البلدان اصطلاء بنارها حتى الساعة؛ لأنه كان مركز ذلك الطوفان الفارسي الخبيث.

أما التجربة المعاصرة فعبارة عن عمل ارتجالي قام به شباب متحمس من أهل السنة تركز جهدهم على تغيير العقيدة وما يتبعها من عبادات، وبعضهم وقع في مطب التركيز على الهدي الظاهر. والجميع – إلا أقلهم – لم يبلغ بالجهد حد الوصول إلى مستوى (أسلم وحسن إسلامه). ولا هم قادرون على ذلك لو أرادوا، إلا ما كان من حالات فردية؛ لأن هذا الهدف في حاجة إلى عمل مؤسسي يمتلك ما يكفي من الوعي والخبرة. وهذا ما لم يكن.

كما أن الجهد التغييري يكاد يقتصر على انتقاد الشيعة وهدم ما يتعلق بعقائدهم وطقوسهم وسلوكهم. وهو أمر مطلوب، لكن ليس هو كل المطلوب.

 

كونك ضد الشيعة لا يعني أنك مع السنة

قبل عدة سنوات كتبت مقالاً بعنوان (كونك ضد الشيعة لا يعني أنك مع السنة). ذكرت فيه كيف أن الله تعالى بنى الكون على قانون (الزوجية) الذي ذكره في قوله الكريم: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الذاريات:49)، وأن من مظاهر هذا القانون زوجية قوتَي الهدم والبناء وارتباطهما ببعضهما ارتباطاً عضوياً تخادمياً، بحيث لا يصلح أحدهما دون اقترانه بالآخر. وذلك يتجلى في كل شيء من حولنا.

تأمل الأساس الذي قام عليه الإسلام: (لا إله إلا الله).. وانظر! أوله هدم: (لا إله) لكنْ آخره بناء (إلا الله). وهو ترجمة مختصرة لقوله سبحانه: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256).

عند تنزيل هذا القانون المطلق: الكوني والشرعي على واقعنا نكتشف الخدعة التي يقع فيها معظم الجمهور السني حين تجده ينفق سحابة جهده أو كله على ذم الشيعة والتحذير منهم، وتبادل الموضوعات واليوتيوبات الفاضحة لهم، ونشر جرائمهم وكشف مخططاتهم. ثم يكتفي بهذا، ويجلس على التل يتفرج على ما يدور وهو خارج نطاق المشهد.

هذا الهدم أيها السني، فأين البناء الذي يتحرك به قانون الزوجية في معادلة مواجهة الشيعة؟ الهدم زوج خامل لن يتحرك ما لم يلتحم بزوجه الآخر. وكذلك البناء. مثله كمثل البويضة تبقى خاملة حتى يلتحم بها زوجها وتتكامل مادتها في زوجين من الشريط الوراثي. وإلا سيجرفها تيار الحركة ليلفظها رحم الحياة إلى العدم.

فما هو عامل البناء الذي يتكامل مع عامل الهدم في معادلة مواجهة الشيعة؟

إنه العمل للسنة طبقاً لمشروع سني: محدد الهوية، واضح الهدف، مرسوم الخطة. تنطلق منه برامج تنموية: فردية ومجتمعية في طريقه لبناء القوة السياسية والعسكرية.

فإذا جمعت هذا إلى ذاك فأنت السني الحقيقي. وإلا فلن تكون أكثر من زوبعة صيف ترعد وتبرق داخل فنجانها المحدود، لا تملك القدرة على تجاوزه أو كسره، في طريقها إلى الزوال المحتوم.

4 رمضان 1440 – 9 مايس 2019

 

اظهر المزيد

‫9 تعليقات

  1. لا زال مقالك (حمراء الكوفة .. وقصور السيف العربي عن الاستيعاب الثقافي الفارسي) يرن في اذني كلما رايت عاديات اهل السنة ضابحة بضجيجها مخلفة الغبار بعدوها ارى لهيب قدحها الا انني اقف متاسفا ان هذا العمل الذي ينتهي بنا الى عقبة كنود مقطوعة الحبل بينها وبين الجمهور السني ما انتصر السيف العربي حتى أثر حمراء الكوفة على المختار _ابن صاحب معركة الجسر ابي عبيد الثقفي _ فاذا به يقود حربا ضد اهله وهو يقود هؤلاء الموالي ضد العرب .
    اننا نحتاج اليوم الى _إحياء القراءة التكاملية للأشياء، وهذا في حاجة إلى وجود العقل الذكي والجهد المؤسسي القوي_ لا يكفي ان نهدم عقائد التشيع بل علينا ان نكمل عملية التزواج الذي هو البناء وهو التحصين وارى ان سبب الهروب من التحصين انه بذور تزرع تحتاج الى صبر المفلحين وحلم واناة المتقين وهو عمل لاترى أثاره للعحل المتحمس وللطالب للدنيا ولو قرأنا سورة الكهف التي هي عصمة الفتن ونور الطريق وتاملنا قول الله تعالى لرسوله يعلمه بقوله جَلَّ في عُلاه: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَاۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ الكهف (28). هكذا تضع الاية مهمة التحصين اولا وهكذا نرى المشروع السني يسير بهذه الرؤية الربانية متناسق مع آيات الله الكونية والشرعية .

  2. هذا مقال استراتيجي لمن أراد أن يستبصر أو يراجع.
    فالمراجعة هي عملية تنقية وموازنة وتهذيب للفرد وللمؤسسة.

  3. مقال اقل ما يقال عنه أنه خارطة طريق للعمل الاعلامي و المؤسسي بشكل عام.

    نعم ينبغي ان يكون تحصين السنة في طليعة اولويات اي عمل مؤسسي يتصدى للمد الشيعي ، وعلى رأس جدول أعمال القنوات السنية المتصدية للتشيع…وان لا تنشغل بتسنين الشيعة دون أن يكون هناك جهود لتأهيلهم..
    ثم ان التفريط في تأهيل المهتدين من الشيعة سيعود بويلات وخيمة وتبعات موجعة على المجتمع السني في المدى القريب وسيكلفنا خسائر فادحة وتكاليف مرتفعة على عدة جوانب: الثقافي والفكري والتربوي والاجتماعي..

    وقد بقي ان نقول للعاملين على الاعلام السني:
    ها قد شُخصت لكم العلة بدقة و اعطى الطبيب الحاذق “روشتة” العلاج .. فهل سينتبه الغافل من غوغائية التيه و الحيرة حتى لا تضيع جهوده هباءً.. ؟!

  4. بسم الله الرحمن الرحيم
    جزى الله الدكتور الدليمي خير الجزاء
    ساقتصر في تعليقي على الحوارات الرمضانية
    رغم براعة وعلمية المحاورين السنة، ورغم هزالة دين الشيعة، الا ان الحوار ياخذ وقتا طويلا مملا وقد يصعب احيانا على كثير من الناس تمييز الحق من الباطل ، والسبب الرئيسي هو افتقاد الطرف السني لقواعد الضربة القاضية، ويكفي لاستيعاب تلك القواعد هي مطالعة كتاب القواعد السديدة للدكتور الدليمي حفظه الله ، ثم اتخاذه منهجا ثابتا في الحوار

  5. مقال قيم ويحث كل فرد من أنصار المشروع السني الثبات على هذا الطريق والعمل الجاد فيه لتكوين أهل السنة وتحصينهم وتحفيزهم لنصرة هذا المشروع السني الرباني الذي يشمل كل أمور الحياة والدين والدعوه وفقا المرضاة ألله
    وكما قلت شيخنا المجدد الراشد طه الدليمي
    ((من لم يكن له مشروع كان ضحية لمشاريع الآخرين))

  6. الإحاطة بمفهوم القرآن من خلال أصول العقيدة والشريعة وضروريات الحياة هو وقوف السني على قاعدة صلبة لا تجعل للماكر الشيعي بكل ألوانه وصوره ان يتسلل إلى العامي البسيط ثم ثقافة السني على المشروع المدني الذي يحمل الهوية السنية و الربانية وهذا هدفنا في التيار السني في العراق بقيادة د. طه حامد الدليمي

  7. إن غياب المشروع يجعل العمل مهما كان خالصاً ومهما كان نافعاً جزءً لا كلاً!
    وبالتالي تبقى أعمال الهدم ناقصة مالم يتبعها بنيان.
    بارك الله فيك شيخنا فدائماً ما تجعلنا نرى الصورة كاملة بعد أن غاب عنا جزئها المتمم لها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى